بين انتشار الرشوة والشفافية في المجتمعات علاقة عكسية؛ بمعنى أن تدني الشفافية والإفصاح يؤدي إلى التحريض على الرشوة والكسب غير المشروع، والعكس صحيح. وأهم ما يميز دول العالم المتقدم عما يسمى بدول العالم الثالث هو تدني ظاهرة الرشوة في المجتمعات المتحضرة مقابل تفشيها في المجتمعات المتخلفة. وغني عن القول إن غياب الأنظمة والقوانين التي تفرض الإفصاح، ومن ثم المساءلة والمحاسبة، من شأنها أن تسهم في محاصرة هذه الأوبئة الاجتماعية المدمرة في أضيق نطاق.
غير أن ذلك - رغم أهميته - لا يعفينا من التنقيب والتمحيص والبحث عن الأسباب والدواعي التي جعلت مثل هذه الظواهر (تطفو) على السطح، ثم تنتشر وتتفاقم وتزداد لتشكل أهم و(أخطر) الأمراض الاجتماعية في بلادنا.
ظاهرة (الرشوة) التي انتشرت وتفاقمت في البلاد كانت - في تقديري - نتيجة يجب أن تكون متوقعة لانهيارات سوق الأسهم، وارتباط كثير من (موظفي) الدولة من متوسطي الدخل مع البنوك في قروض مقابل التنازل عن قسط من الراتب للبنك المقرض، واستثمار القرض في سوق الأسهم. كان الإغراء كبيرا، وكانت تصريحات بعض المسؤولين عن السياسة (النقدية) في المملكة تجعل الموظف يدخل السوق بأقل قدر من الحذر؛ الأمر الذي انتهى بالكثير من المقترضين بعد انهيار السوق إلى فقدان نسبة كبيرة من دخولهم، ولم يتلاش الحلم بالثراء فحسب، وإنما تلاشت معه قدرتهم على الوفاء بمتطلباتهم المعيشية، الأمر الذي شكل في المحصلة ضغوطا مالية على الموظف، أسهمت في ظاهرة تفشي الرشوة، والكسب الحرام؛ فالموظف الذي يحف به الفقر، وانخفاض الدخل، وضغوط الحياة، من كل جانب، سيتلمس أي وسيلة للتعويض، ومنها الرشوة إذا كان سيعوض من خلالها ما فقده من دخله نتيجة لاقتراضه وخسارته في سوق المال؛ وكما يقولون على سبيل المجاز: (الجوع كافر).
أزمة سوق الأسهم، وما اكتنفها من توسع في تسويق القروض الشخصية من قبل البنوك، و(تورط) شريحة كبيرة من موظفي الدولة من القطاعين المدني والعسكري في هذه القروض وخسارتها في سوق الأسهم، يجعل حل هذه المشكلة (الاجتماعية) من قبل الحكومة أمر في غاية الإلحاح، لكي لا تتجذر الرشوة، وتصبح ثقافة في مجتمعاتنا مثلما هي في المجتمعات الأخرى. أعرف أن هناك من سيعارض مثل هذه الحلول على أساس أنها ستفضي إلى تعزيز (الثقافة الاتكالية) في مجتمعنا التي تعتمد على الدولة في كل شؤون حياتها، والتي فيما لو تجذرت ستخلق أجيالا ستلجأ إلى السلطات الحاكمة لحل مشاكلها الاستثمارية الخاصة. مثل هذا التبرير يمكن قبوله في الظروف الطبيعية، أما في الظروف (الطارئة)، كالظروف التي اكتنفت سوق الأسهم، وتورط شريحة كبيرة من الموظفين فيه، وفقدانهم لجزء كبير من دخلهم نتيجة لتنازلهم عن نسبة من مرتباتهم للبنوك، يجعل مثل هذه الحجة، أو التبرير، لا يمكن قبوله، فهذه القضية ليست مقتصرة على فئة دون فئة وإنما دخلت (تقريبا) إلى أغلب بيوت الطبقة المتوسطة وجزء كبير من الطبقة الأقل دخلا.
وأنا هنا لا أطالب أن تتحمل الدولة القروض، وتعفي المقترضين، وإنما أجد أن من الضرورة بمكان أن تساهم الدولة بإعادة (جدولة القروض)، وتمديد فترات السداد إلى مدد أطول، بحيث تتحمل الدولة التكاليف المترتبة على إعادة الجدولة وتمديد فترة السداد، طالما أن الأزمة اتسعت، وطالت شريحة كبيرة من المواطنين.
الذي يجب أن نتفهمه جيدا أن (المرتشي) هو ضحية قبل أن يكون جانيا، قبل أن تحمله مسؤولية جنايته يجب أولاً أن نتفهم الأسباب والدوافع التي انتهت به إلى ممارسة هذا الفعل المعيب، ونعالجها قبل الإدانة.
إلى اللقاء.