حتى جدتي لأمي كانت تتعامل مع الرموز، فالغزالة عندها المزاج، وحين تجدنا مقطبين لأمر ما يبدأ من المدرسة ولا ينتهي في المنزل، كانت غالباً ما تتساءل عن سر هذه الغزالة المكدرة فينا، وأحياناً تذهب زهور إلى المرآة لتبحث في وجهها عن الغزالة، أو أتلمس رأسي لعل قرونها تكون قد نبتت في رأسي، لكن اختبارا صعبا كنا نستعد له في غد يوم لا نستشرف فيه يقظة بعد منام، إذ سيكون ليلنا هو نهارنا سنتوقع في صباحه أن الغزالة سوف تختفي تعابيرها في محيانا بعد أن نعود منهكات من المدرسة، وهناك سنقابل معلمتنا (عايدة) وهي تجلجل بضحكتها كلما شاهدتنا، ونحن مرتبكات قبل ولوج قاعة الاختبار، لكن وجهها النوراني وكلماتها المشجعة كانت كفيلة بإرخاء حزم أعصابنا المتوترة،.. وبعد الاختبار تفتح زهور حقيبتها بسرعة لتتأكد من أن غزالتها قد أعادت لوجهها ابتسامته الجميلة، فيما أتأكد عن مرآتها أن لا قرون قد نبتت بوجهي، وأن جدتي لن تسأل عن سر تكدر غزالة كل منا، بل ستحمد الله أنها (رايقة) وسر (روقانها) ابتساماتنا، ونحن قد ضمنا معدلات مرتفعة، فالاختبار كان لنا مضمار تنافس ليس فيما بيننا، بل فيما جمعه وكثفه وراكمه واضعو المحتوى لمقررات لم تكن أكثر من حشو، وإثبات لحصيلة معارفهم..لا لقياس مهاراتنا..
هذه الرموز امتدت لكل أمر في حياتنا حتى عندما كبرنا وتناولنا من الأدب شعره ونثره لم تكن تخفى علينا رموز الشعراء ولا الأدباء وهم قد كانوا يتحركون في بيوتنا، وعلى ألسنتهم من الأوصاف والكنايات والاستعارات والمقابلات ما إن تذكرناه الآن، تذكرنا رموز المثقفين من الأجداد والآباء والأمهات وهم يحملون قلوبا عامرة بالنبض، وأخيلة خصبة بالصور, وألسنة رطبة بالعتابير الجميلة...
أما الآن فقد انقسم الناس بصفاتهم واختصاصاتهم حتى غدوا يتفرقون في مفازات متعددة يحمل كل فيها ما في زوادته من مؤونة لكنها مقارنة مع أولئك قليلة وضحلة وباهتة..، كأنها حفنة من غبار.