Al Jazirah NewsPaper Tuesday  05/05/2009 G Issue 13368
الثلاثاء 10 جمادى الأول 1430   العدد  13368
هل صحتنا النفسية على ما يرام ؟ (1-2)
د. زايد بن عجير الحارثي

 

قد يبدو عنوان هذا المقال مثيراً وكأنه لمجرّد تحفيز القارئ على المتابعة والاهتمام، ولكن الحقيقة أنّ الأمر أكبر من ذلك بكثير، فهو يعني كل شخص فينا. إنه لا بد من أن نقف كثيراً عند هذا العنوان، لأنّ صحتنا النفسية هي أغلى ما نملك في حياتنا....

...والمحافظة عليها من أوجب الواجبات الدينية والقانونية، مثل المحافظة على صحة أبداننا وأموالنا وأعراضنا، ولهذا فإنّ الأمر لا ينته بمقال أو بحث أو كتاب أو بمؤتمر أو مؤتمرات وندوات, بل وجب وضع برامج وخطط وسياسات على مستوى وطني، بل وعلى مستوى إقليمي ودولي لمناقشة هذه القضية وإيلائها ما تستحق من اهتمام. وتكون المؤتمرات والندوات وسائل وخطوات ومراحل ضمن تنفيذ هذه السياسات العليا.

إنّ صحة الإنسان النفسية هي عماد حياته واستمراره وعمارته للأرض، وبدونها أو حتى بوجود خلل فيها لا تستقيم الحياة بل ويصبح عبئاً على غيره، إنْ لم يكن مدمراً لنفسه ولمن حوله. ولو قارنا الاهتمام بالصحة النفسية بالصحة الجسدية لوجدنا فرقاً هائلاً بينها ولصالح الاهتمام بالصحة الجسدية، وقد يكون مرد ذلك إلى عدم أو قصور في الوعي الكافي بتعريف الصحة النفسية، وما يترتّب على عدم الوعي بخطورة نتائجها ومع وجوب التسليم علمياً ومنطقياً بضرورة تلازم الاهتمام بالصحة بشكل تكاملي (صحة الأبدان وصحة الأنفس) للإنسان بدون تجزيء تحقيقاً لمبدأ العقل السليم في الجسم السليم والعكس. إلاّ أنني أزعم أنّ الصحة البدنية في حالتها الراهنة لدى معظم الناس، أفضل بكثير من الصحة النفسية على مستوى عالمي وعلى مستوى إقليمي ومحلي بصفة خاصة، مع تفاوت نسبي في النوعية والدرجة بحسب الوعي والاهتمام الذي يتوفر لدى كل شعب أو أفراد بمفهوم الصحة النفسية والعناية بها وصيانتها.

إنّ مما يدعو للقلق بوجوب الاهتمام بالصحة النفسية والتي أصبحت مثار تساؤلات كثيرة في ظل التقارير والإحصاءات التي تشير إلى ارتفاع عدد ونسب المصابين بأمراض نفسية وحتى عقلية بشكل مخيف ومزعج. (وإن كان لا يحضرني الآن نسبة أو أعداد محددة ودقيقة)، إلاّ أنه ومن خلال قراءات سطحية وسريعة، ومن رؤيتي وانطباعاتي وخبراتي، وجدت أنّ في بعض الأخبار التي صدرت من خلال بعض الصحف مثل الاقتصادية الإلكترونية عدد (4919) في 31-3- 2007م، وكذلك العدد (5566) في 6-1-2009م وغيرها، والتي تشير إلى أنّ نسبة المصابين بأمراض نفسية في المجتمع السعودي تتراوح ما بين 20- 40% فيها الكثير من الصحة، بل إنّ هذه النسب في نظري قد تكون أقل مما هو معلوم وربما تصل في نظري إلى نسب أكبر أي أربعين إلى خمسين في المائة من المجموع الكلي للشعب!!! مع اختلاف نوع ومستوى ودرجة الحدة لمن يمكن وصفه بالمريض نفسياً من النسبة المشار إليها. وأنّ الحكم العلمي يقتضي عمل دراسة وطنية شاملة لحصر أعداد المصابين بأمراض نفسية ونوعيتها وإصدار الحكم الدقيق والموضوعي بخصوصها، كما هو الحال في الأمراض الجسمية المختلفة..

إنّ الاهتمام بالصحة النفسية للأفراد والجماعات مسألة حيوية وليست خيارية. وهي في مجتمعنا على وجه الخصوص أكثر ضرورة وبعد ما نال الكثير من الناس من خسائر في المساهمات والاستثمارات التي أدت بكثير منهم إلى فقد معظم ممتلكاته، وما ترتب عليها من فقد آماله وطموحاته في التعويض، وما ترتب عليها كذلك من الغرق في ديون والتزامات بعضها طويل الأمد وبعضها يصعب الوفاء بها، مما أدى بالكثير إلى الشعور بالإحباط والقلق وربما الاكتئاب وغيرها من أعراض الأمراض النفسية المختلفة، بل إنّ التغيرات العلمية وتأثيرات ما يسمى بالعولمة (GLOBALIZATION) السريعة على المجتمع، والذي لم يكن مستعداً بما فيه الكفاية للتعامل معها و مع الصراع الجيلي (GENERATIONS CONFLICT) الذي يسود داخل المجتمع، وكذلك الصراع القيميVALUES CON) (FLICT) قد أفرز ويفرز الكثير من أعراض الأمراض النفسية التي نلحظها في مجتمعنا. ويمكن الآن أن نأخذ بعض الملاحظات والشواهد التي أرى أنها تشكِّل أعراضاً لأمراض نفسيه أو أمراضاً نفسيه في ذاتها تنتشر بكل أسف في مجتمعنا.

1- ازدياد أعداد المرضي في مستشفيات الصحة النفسية والتي تشير المستشفيات والعيادات التخصيصة المنتشرة في أنحاء المملكة إلى تزايدها وفقاً للإحصاءات الرسمية، مع العلم أنّ الكثير في مجتمعنا لا يزالون لا يعرفون أو لا يعترفون بمراجعة هذه المستشفيات أو العيادات (لما صاحبها كغيرها من بعض المهن والتخصصات من مشاعر واتجاهات اجتماعية سلبية تعتبر عيباً أو وصمة لمن يرتبط بها)، ويكتفي الكثير من الناس بمراجعة العيادات الشعبية أو بعض أدعياء العلم

2- انتشار العيادات والمعالجين الشعبيين ومدعي الإرشاد والمساعدة للمرضى وذوي الحاجات بكل أسف بدون رقيب أو حسيب والذين يمارسون شعوذاتهم وإرشاداتهم تحت ستار القراءة أو فك السحر أو العلم بأساليب الإرشاد والعلاج، وما هم إلا في الحقيقة نصابون مستغلون لأصحاب الحاجات أو الخجولين من مراجعة المتخصصين والمصرح لهم في أماكنهم الرسمية. ومع الأسف إنّ الكثير من هؤلاء يمارسونها بدون تصاريح أو علم أو تخصص في مأمن من المحاسبة والملاحقة كما يظنون مما يزيد المرضى مرضاً وإفلاساً.

3- سلوك القلق والتهور والتوتر والشحن النفسي والشعور بالإحباط والخوف من المجهول ومن المستقبل وأحياناً العدوانيه وعدم التحمل الملاحظ على الكثير ومن الكثير من الناس في تصرفاتهم في الشوارع في أثناء قيادة السيارات وفي أثناء الاجتماعات وفي داخل الأسر وفي المدارس والجامعات والملاعب والمساجد وحيثما وجد تفاعل وتواصل اجتماعي، حيث يلاحظ مثل هذه المشاعر والأفعال التي يطلق عليها شعبياً (ضيق الصدور وضيق الخلق) وترتب ويترتب على مثل المشاعر والسلوكيات انفعالات وحوادث عنف داخل المنازل والشوارع تشهد بها حوادث المرور والطلاق والمضاربات والمشاحنات والاعتداءات المختلفة على النفس وعلى الآخرين.

4- الشكاوى والتبرم والتضجر من الخسائر في الأسهم وغيرها من الضوائق بين الأفراد والجماعات والتي يداولونها الناس في أحاديثهم وفي الصحف وفي كثير من المنابر العامة ويترتب عليها كثير من السلوكيات غير المسئولة مثل كثرة الغياب في العمل والتقصير في الواجبات نحو النفس والأهل والمجتمع.

5- القابلية للتأثر بالشائعات وترويجها نتيجة ضعف الوعي والمناعة لدي الكثيرين كما حدث في شائعات مكائن الخياطة (سنجر) التي تداولها الناس مؤخراً والتي نشرت عنها الصحف الكثير ولاقت تعليقات ساخرة كثيرة حولها، وسيكون لي حديث خاص عنها قريباً إن شاء الله.

6- حوادث العنف الأسري المتزايدة بأنواعها ودرجاتها التي تشهد بها أروقة المحاكم وتسجلها وتتبنّى الدفاع عنها جمعيات حقوق الإنسان وتكتب عنها الصحف بشكل يؤرق الرأي العام.

وليسمح لي القارئ الكريم الآن، ولغرض تجلية الأمور والغموض الذي يكتنف المتابعة والاهتمام بهذا الموضوع الحيوي أن أعرض تعريف الصحة النفسية حتى يكون متابعة الموضوع سهلاً وسلساً وهي كما عرفتها منظمة الصحة العالمية (حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرد انعدام المرض أو العجز ) .. وفي ظل هذا التعريف دعني أيها القارئ الكريم أطرح عليك بعض الأسئلة التي أرى أنها تمثل مؤشرات أو مقياساً يمكن الاستدلال منه على مدى تمتعنا بالصحة النفسية أو الاعتلال النفسي.

- هل أنت راضٍ عن علاقتك بربك؟

- هل صحتك البدنية على ما يرام؟

- هل يغلب على حياتك السرور ؟

- هل تشعر بالرضا في حياتك العامة ؟

- هل يسيطر عليك شعور عام بالإحباط؟

- هل يسيطر القلق على مستقبلك وأسرتك؟

- هل تنام يومياً نوماً مريحاً؟

- هل يوفر لك عملك دخلاً كافياً ؟

- هل تجد في منزلك راحة تغنيك عما سواه؟

- هل لديك من الأنشطة ما يشغلك في فراغك؟

- هل لديك أصدقاء أو أقارب مخلصين تلجأ إليهم وقت الحاجة؟

- هل أنت راض عما يحدث على الساحة العالمية من أخبار؟

- هل يسيطر عليك الوسواس؟

- هل تخاف من الموت المفاجئ؟

- هل تستطيع تقديم الخدمة والعون لمن حولك؟

- هل أنت قادر على الاعتماد على نفسك ومن حولك بصفة عامة؟

أيها القارئ الكريم إنك تستطيع أن تحدد مستوى صحتك النفسية بالإجابة على مثل هذه الأسئلة وغيرها. وكم أتمنى لو تم تقنين هذه الأسئلة و توزيعها على عينة من آلاف الأشخاص في المجتمع لكي يكون الحديث هنا أكثر علمية، وقد يتم فعل ذلك قريباً إن شاء الله، لأنّ من شأن ذلك أن يوفر الطرق الصحيحة للوقوف حقيقة الأمراض النفسية وعلاجها، بل ورسم الخطط والإجراءات الوقائية منها.

ويرتبط بالحديث عن موضوع الصحة النفسية والذي اعتبرته من أولويات حياتنا، ويجب التركيز عليه بشكل وطني شامل، موضوع أسباب هذه الأمراض التي ألقيت عليها بعض الاضاءات فيما سبق و اعتبر معرفتها حجر الأساس في وصف العلاج والوقاية من الأمراض النفسية.

ويجب أن أعترف بادئ ذي بدء بأنّ التصدي والخوض في معرفة أسباب مرض ما بدنياً كان أو نفسياً تتطلّب معرفة ودراسة علمية دقيقة، ولكني أعطي لنفسي الحق لغرض التوعية العامة في هذا المنبر الهام باستعراض جملة من الأسباب العامة التي توصّلت إليها من خبرتي البحثية و كذلك من خلال قراءاتي لعشرات الأبحاث والرسائل والتقارير أو المقابلات مع المختصين و المسئولين بأنّ أسباب الأمراض النفسية كثيرة بعضها يرتبط بالشخص نفسه وتكوينه الوراثي (ولا مجال للحديث عنها في هذا المقال)، وبعضها مرتبط بالبيئة المحيطة والظروف الخارجية للفرد إما لظروف طارئة أو لظروف غير سوية في تركيبة البيئة المحيطة.

فكما أثارت وتثير الرعب وتغير من نمط حياة الناس بعض الأوبئة مثل حمى الخنازير أو الحمى القلاعية أو حمى الضنك أو أنفلونزا الطيور أو الدجاج أو غيرها من الأوبئة والفيروسات، كذلك الحال قد أثرت وتؤثر على صحة الناس وحياتهم النفسية بعض الظروف والأحداث مثل ضعف الوازع الديني و مثل الخسائر في سوق الأسهم أو المساهمات الأخرى التي طالت شريحة كبيرة من المواطنين وهزّت معنوياتهم بل وقلبت حياة الكثير منهم إلى جحيم فأصيب الكثير منهم بالإحباط والاكتئاب والوسوسة والقلق المرضي والهلوسة والعصاب، وغيرها من الأمراض التي ساهمت في زيادة نسب أحداث العنف على النفس والمجتمع مثل الطلاق والمخدرات وحوادث المرور والانتحار وتفكك الأسر وغيرها. وكذلك من الأسباب الخارجية للأمراض النفسية، سيطرة وطغيان الدوافع المادية على الحياة وتأثيرات العولمة السلبية من دون استعدادات كافية لمواجهتها وحسن التعامل معها، وغير ذلك من الأسباب التي تحتاج إلى دراسة شاملة وعلمية.

إنها مجرّد لمحات عن بعض هذه الأسباب التي تمهد لنا الطريق لاستعراض الإرشادات والنصائح والقواعد الضرورية التي تساعد على مقاومة الأمراض النفسية والتحصين ضدها والوقاية منها، بل والتمتع بصحة نفسية جيدة، وهذا ما سوف نعرضه في المقال القادم بإذن الله وبه التوفيق.

للمتابعة والتعليق: ZOZMSH@HOTMAIL.COM



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد