دخلت مكة أول مرة حاجاً قبل ست وخمسين سنة، وأنا إذ ذاك طفل لم يبلغ الحلم، ومثلي في هذه السن وخلو الذهن لا يند عن ذاكرتي شيء.
|
ودخلتها آخر مرة معتمراً قبل أربعة أيام، وأنا كهل لا يكاد يستقر في ذاكرته شيء.
|
وبين الدخولين فوارق لا يراها بحجمها الطبيعي إلا الذين عاشوها كما لو كانوا منشئيها، وشهود الإثبات العدول هم الذين يرون الأشياء رأي العين، ثم لا ينكرونها، ويسمعون صخب المشروعات ثم لا يجحدونها، ويتقرَّون المتغيرات بلمسٍ ثم يعرفونها، ويتعرفون على من أجريت على أيديهم، وأولئك هم المفلحون الذين يقيدون النعم بالشكر لمسديها.
|
أما غير العدول فلهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها.
|
إذ كل شيء عندهم يكون بمحض الصدفة، ولربما أنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، ولا يذكرون المنعمين من عباده إلا قليلاً، أشحة في القول والعمل يعرفون حقوقهم ولا يوفون بواجباتهم، وليس غريباً أن يكون من بيننا من هم أشبه شيء بالدهريين الذين يقولون كما قال سلفهم: (وما يهلكنا إلا الدهر).
|
ومقسم الأرزاق هو مقسم الأخلاق، وأيسر الحرمان من حُرم المال، وأوجعه من حرم الأخلاق. ونكران الجميل درك الرذيلة وحفظه ذروة الفضيلة.
|
وليس مقياس شيء من ذلك أن نلهج بالثناء، ولكنه الذكر والشكر والحفظ والشعور بالمسؤولية، فما الناس في النهاية إلا كالمستهمين على السفينة والنجاة في حفظها من عبث العابثين وغفلة الساذجين.
|
وبلاد الحرمين الشريفين بما وهبها الله من ثراء دافق، وأمن وارف، وقوة من غير عنف، ولين من غير ضعف، وعدل شامل، واستقامة على المأمور لم تعد رهينة سياقها ولا حبيسة أنساقها، وخروجها المنضبط في إيقاعه مكَّنها من تفادي الصدام، ورائد الانعتاق من ويلات الفرقة والفاقة مؤسس هذا الكيان لم يركن إلى خطاب الثورة والتمرد الأهوج ولهب المشاعر ومصادرة الآراء، وخلفه من بعده لم يناصبوا السياق والأنساق عداوة ولا بغضاء، فكان التعايش المرحلي الذي برهن للوجلين عن خطأ وجلهم فيما لم تصادر حقوقهم في الممانعة والمراجعة والمساءلة، وأخذ الحذر من أي طارئ لم يخبروا دواخله. ولا يلقّى تلك الأساليب الحكيمة والحليمة وفصل الخطاب إلا الذين يمنحون الواقع حق التفكير السليم ومحاكمة الذات بالمثل والشاهد، وكل من وجد سلفه على أمة ثم لم يوفق بمصلح يمنحه فرصة التأمل والموازنة يكون عبئاً وعقبة، وقد يجهض المشروع الإصلاحي الحتمي بتجييش الرأي العام.
|
ولأن الناس أعداء ما جهلوا فإن أي خطوة في طريق الإصلاح لا تسلم من التخوف والتمانع، والذين يديرون شيئاً من صور الممانعة لمجرد السخرية والتندر والتجهيل لا يدركون سنن الحياة وما لقيه الرسل والمصلحون مع أممهم، ولا يدعون أدنى فرصة لمراجعة النفس والخلوص بها من ربقة الإلف:
|
خُلقتُ ألوفاً لو رجعتُ إلى الصبا |
لفارقتُ شيبي موجع القلب باكيا |
وكم من مصلح عوَّل على مشروعية إصلاحه ولم يراع فيمن استرعاه الله عليه ما يرفق به تشظى على صخرة الواقع وأصبح عمله هباء منثورا.
|
والعارفون المجربون يحكمون صناعة خطابهم، ولا تعجبهم إمكانية ولا مشروعية: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
|
وتلك البقاع الطاهرة التي أوحت بتلك الخواطر جُبيتْ لها ثمرات كل شيء وتوفرت على مقومات التفوق والتألق، نرى شواهد نجاحاتها بادية في كل زاوية من زوايا الوطن وفي كل مرفق من مرافقه، ولم يبق إلا أن يفكر المواطن بدوره في وسط هذه المعمعة ومدى تكافئه مع هذه المنجزات الحضارية، ولقد يكون من طبيعة الحياة ومكابدتها أن تتعرض شريحة من شرائح المجتمع إلى نقص أو تقصير في الضروريات أو في الكماليات ثم لا يكون مقصوراً أو لا يكون مقدوراً على تلافيه، فلا يكون من حق أحد من هذه الفئة أن يجزع أو تنكر عينه ضوء الشمس فيكون مخذلاً وغير مؤثر على نفسه على حد:
|
(إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطر)
|
وبلاد حباها الله بمزيد من الإمكانات جديرة بأن تكون ملء سمع أبنائها وأبصارهم. وأن تحاط بعنايتهم، ولا سيما أنها مستهدفة من مستغلين جشعين ومخربين حاقدين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، كما أنها تعيش وسطاً عربياً يفيض بالمشكلات الطائفية والحزبية والإقليمية والقبلية يتناحر أبناؤه ويصطرخ مستضعفوه، وتنفذ فيه لعب قذرة، أدت إلى تدمير دول فرطت في جنب الله، والعقلاء الناصحون لم يستطيعوا إيقاف التدهور في كافة المرافق.
|
ومن ذا الذي لا يتصور فداحة ما تعانيه دول فقدت كل مكتسباتها بسبب تفريط أبنائها وتسلط أعدائها، وكل المجازفين تحت أي مبرر يملكون البداية ولكنهم أعجز ما يكونون عن وضع حد للنهاية. وكم من مغرورين وضعوا أقدامهم في طريق الفتن فجرفهم تيارها، وحين استبانوا طريق الرشد لم يكن بمقدورهم الخلوص من طوفانها فضاعوا وأضاعوا، وما بكت عليهم السماوات والأرض وتلك مساكنهم من بعدهم تعوي فيها الرياح وينعق فيها البوم، وتحكي مآسي دامية تعتصر القلوب وما أحيط بهم إلا أنهم كفروا بأنعم الله ونسوا ما ذكروا به: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ}
|
لقد أثارت تلك المشاعر والمشاهد الروحانية فيضاً من الأحاسيس، وكيف لا تثير وأنا أجيل نظري في فجاج مكة، وكل موطئ قدم فيها صفحة مشرقة من التاريخ الإسلامي، وأمتع ناظري في أرجاء المسجد الحرام وما حباه الله به من توسعات متلاحقة وعمارة فارهة وخدمات لا يتخيلها إلا مستفيد يلقي السمع وهو شهيد، إنها شواهد إثبات لعصر ذهبي وفواتح أحاديث عذاب عما تنعم به هذه البلاد وأهلها، وما لم يع كل مواطن أنها قابلة للزوال، وما لم تقيد شواردها بحبال مفتولة من الشكر والذكر، وما لم يشعر كل مواطن أنه راع وأنه مسؤول عما استرعاه الله عليه، تفلتت كما تتفلت الإبل من عقلها.
|
والمسجد الحرام بوصفه شاهد إثبات يعج بالمشروعات فالهدم والبناء والإنفاق على قدم وساق، لقد كان المسجد من قبل ينحصر بين (الحزورة) و(المسعى)، أما اليوم فقد بلغ جبل أبي قبيس وجبل عمر وحي (الشبيكة) ويزاحم (أجياد) و(المسفلة) وامتد ليلتهم حي (الشامية) في توسعة الملك عبد الله.
|
والأمر لا يقف عند هذا الحد، وإنما يمتد ليشمل مجمل الخدمات والتسهيلات والسقي والنظافة والأمن وتوفير كافة الوسائل لتطهير البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود، إنها مفخرة لكل مواطن وحماية له من عوادي الزمن، متى ذكر وشكر وبذل وطاول هذا الشموخ بلا مَنّ ولا أذى، ومن يدري فقد يكون تفجير كنوز الأرض ووقاية البلاد من أعاصير الفتن؛ بسبب ما يبذل في تلك البقاع الطاهرة، فلتطب أنفسنا بما يبذل ولنبارك خطوات قادتنا في هذه المهايع: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}
|
|