ينشأ الطفل في مجتمعاتنا العربية والسعودية تحديداً في مناخ إقصائي مشبع بالخوف والتوجس والحيرة.
يعيش طفولته وهو محاط بعيون تترصد أخطاءه وتذكره دائماً وأبداً بأنه طفل صغير لا يحق له المشاركة والتعبير واتخاذ القرارات الكبيرة أو الصغيرة التافهة.
فمثلاً حين يسأل الناس الطفل السؤال التقليدي الشهير: ماذا تريد أن تصبح حينما تكبر؟ فيجيب الطفل بعفوية عن هذا السؤال الذي يثير الطموح الغض بداخله ويقول: أريد أن أصبح مزارعاً أو طباخاً أو كهربائياً، فتجد استنكاراً ورفضاً شديدين من السائل حين يقول له ناهراً إياه: لا، يجب أن تطمح أن تكون طبيباً أو مهندساً أو محامياً.
سؤال يطرح نفسه هنا: بأي حق نمنع ونغتال أحلام وطموحات الأطفال بفوقيتنا على المهن وثقافة العيب التي تسطير علينا؟!
إن مثل هذا التفكير والرفض العلني والاغتيال العاجل لتلك الأحلام والمهن سيخلق بنية تحتية هشة لعدم وجود التنوع وسيولد شباباً متكبراً على المهن وأنماطاً وقوالباً متكررة ومألوفة من البشر، وليس أنماطاً جديدة ومتنوعة وغريبة.. فالغرابة بحد ذاتها إبداع.
للأسف إن الفكر السائد في مجتمعاتنا العربية هو أن أبناءنا يجب أن يكونوا نسخة منا أو امتداداً لنا، ناسين أو متناسين أن أطفالنا كائن مختلف عنا.. له طموحاته وأحلامه وميوله واستعداداته الخاصة.
فإننا نرتكب خطأ جسيماً حين نفعل ونقرر ونفكر بالنيابة عنهم ونفرض عليهم قناعاتنا وتوجيهاتنا بشكل مفرط لا يسمح لهم باتخاذ قراراتهم وتحقيق رغباتهم ولو لمرة! فلا نتيح لهم فرصة القيام بأعمالهم وحدهم ومواجهة مشاكلهم بأنفسهم.
فماذا نتوقع من طفل تعوَّد أن تملى عليه الأوامر بشكل متواصل ويفرض عليه كل شيء ابتداءً من أكل الخضار يومياً واختيار الأصدقاء له وربط حذائه وفرض ذوقنا الخاص عليه باختيار الملابس واختيار الألعاب وأفلام الكرتون التي نفضلها نحن لا هو وانتهاءً باتخاذ قرار بشأن وظيفته المستقبلية!
وحتى حين يولد الطفل بشخصية قيادية وجريئة لدرجة أنه يريد أن يشارك ويعبر عن رأيه الخاص في مجلس الكبار ستجد أن أباه قتل جرأته وأحرجه حين أسكته أمام الحضور قائلاً: (اخرس، مازلت صغيراً)!
أو حتى حين يسأل الطفل سؤالاً يخترق به المساحات المحرم الخوض بها فسيكون الجواب حاضراً (عيب يا ولد، لما تكبر تعرف).
مثل هذه الأجوبة وهذا الفكر من قبل الأهل سينشأ جيل مكبوت واتكالي يشعر بالقصور وعدم الأهلية والدونية، كما أن لهذا الفكر تبعات مدمرة على الأمد البعيد.
فنحن نعيش اليوم ونشاهد واقعاً مؤلماً في مؤتمراتنا العربية حين تأتينا الوفود الأجنبية وتكرر أحاديثها وتؤكد أننا بلاد غنية وقوية ولكنها متأخرة ونامية، لذلك سنرسل إليكم مخططين وخبراء مختصين يعلمونكم كيف تديرون وتخططون مدارسكم ومزارعكم وأعمالكم وسنرسل لكم مختصين في شؤون الأسرة لتنظيم حياتكم!
وفي الجانب الآخر هناك نوع غريب ومؤذ من البشر يغتصب الطفولة بشكل آخر حين يسأل أسئلة تكسر حاجز الخصوصية وتخرق عالم الطفولة البريء وتشكل ثغرات سوداء في شخصية الطفل تلازمه سنين طويلة.
فيسأل الطفل عن أحوال بيته الخاصة ويحرص على معرفة أدق التفاصيل وآخر أخبار عائلته، فيتحول الطفل البريء الغارق في هموم عالمه البسيطة إلى جاسوس ساذج يخون وطنه الصغير (بيته) من دون أن يشعر وينقلها إلى عالم الكبار المليء بالمشاكل والعقد و(اللقافة)!
أعتقد لا بل أجزم أنه حان الوقت حتى نغير من طريقة تفكيرنا وقناعاتنا التي توارثناها عن جداتنا، والتي تؤمن بأن الأم المثالية الرائعة هي التي تقوم بكل شيء عن أطفالها وهذا غير صحيح.
حيث يجب أن يأخذ الطفل فرصته في هذا العالم.. فرصته في المشاركة والتعبير عن ذاته وخوض غمار تجاربه الخاصة ومواجهة مشاكله مع أصدقائه دون أن تهرع والدته أو والده للدفاع عنه، بل إنه يجب أن يتخذ قراراته التي تخصه بنفسه وبعد ذلك يحق لنا مناقشته بها.
وإذا أردنا أن نصنع من أطفالنا أناساً قياديين وصناع قرار في المستقبل فيجب أن نظهر لهم احترامنا لآرائهم وتجاربهم ومحاولاتهم ونعطيهم حق الاختيار واتخاذ القرار، فمثلاً بدلاً من أن نفرض عليهم لبساً معيناً يفضل أن نخيرهم بين القميص الأبيض أم الأحمر ونعطيهم حق اختيار شرب كأس واحد من الحليب أو كأسان أو النوم الساعة الثامنة أو الثامنة وخمس دقائق.
مثل هذه الحيل البسيطة جداً ستحقق مطالبنا وتمنح الطفل فرصة صنع القرار، ففن صناعة القرارات يبدأ من القرارات الصغيرة التي قد تعتبرها تافهة ولكن تأكد أن لها وقعاً إيجابياً قوياً وعميقاً وبعيد المدى، ففي المستقبل سيتمكن الطفل من اتخاذ القرارات القوية والمصيرية وحده دون تردد أو خوف.
وأقول لأولئك الذين يتطفلون على حياة الآخرين ويتابعونها عن طريق الأطفال: كفوا عن اغتصاب براءة الأطفال وتسخيرها لعقلياتكم وإن لم تفعلوا فستجدون أطفالكم جواسيس عليكم، فإن الله يمهل ولا يهمل. ولله ما وراء القصد.