Al Jazirah NewsPaper Monday  04/05/2009 G Issue 13367
الأثنين 09 جمادى الأول 1430   العدد  13367

بعد أن لاحت إرادة زعامة
د. عبدالله الصالح العثيمين

 

تاريخ أمتنا العربية الحديث تاريخ بئيس في عمومه. من جوانبه ما ظهر للجميع أو للكثيرين، ومن جوانبه ما لا يزال خفياً عن هؤلاء وأولئك. وكاتب هذه السطور ممن عرف من هذا التاريخ البئيس القليل القليل.

ومما عرفه أن بريطانيا المتفننة في المكر والخداع غدرت بمن غدرت به من زعماء أمتنا، وأن هذه الأمة نكبت بأن أصبحت فلسطين تحت انتدابها غير الأمين، فمهدت بمختلف الطرق والوسائل لترسيخ أقدام الصهاينة من اليهود فيها. ولما اطمأنت إلى أن تلك الأقدام قد رسخت هناك أنهت ذلك الانتداب، متيحة للصهاينة فرصة إعلان قيام دولتهم على أرض فلسطين الطاهرة. وكان دعم المتصهينين، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، للصهاينة قبل إعلانهم قيام دولتهم وبعده من الأمور الواضحة الجلية.

في عام 1948م ضاع جزء كبير من فلسطين - بما فيه قسم من مدينة القدس التي هي العاصمة الثقافية العربية هذا العام - وشرد كثير من الفلسطينيين، الذين لم تقض عليهم المجازر الصهيونية الرهيبة.

وفي عام 1967م احتل الصهاينة جميع فلسطين - بما فيها القدس الشرقية والمسجد الأقصى، وذلك بعد أن انهار جيش مصر في بضعة أيام أو في الأصح خلال ساعات من نهار، وتلاه انسحاب قوات الأردن باستثناء معركة المدرسة في القدس ليعقب هذا وذاك سقوط المرتفعات السورية في الجولان في أيدي الجيش الصهيوني.

كان ما حدث في ذلك العام كارثة عسكرية للفلسطينيين وإخوانهم العرب، وكانت هناك شرذمة من العرب فرحوا بحدوث تلك الكارثة، أعلنوا ذلك الفرح جهراً أو بدا في وجوههم ولم يعلنوه، لكن من المؤكد أن عقلاء الأمة المخلصين لدينهم وأمتهم كانوا أسمى وأنبل من أن يسيطر الفرح على نفوسهم.

وكانت قيادة هذا الوطن (المملكة العربية السعودية) في طليعة أولئك العقلاء المخلصين، واتضح موقف هذه القيادة النبيل بكل أبعاده العظيمة في مؤتمر الخرطوم ذي اللاءات الثلاث المشهورة، التي شيعت جنازتها فيما بعد. في ذلك المؤتمر لاحت إرادة للزعامة العربية، من بوادرها تلك اللاءات الثلاث، التي من بينها: لا مفاوضات مع الكيان الصهيوني، ولا صلح، ولا سلام معه، ومن بوادرها أن القيادة السعودية العظيمة الموقف كانت المتزعمة لدعم دول المواجهة؛ تصميماً على تحرير الأرض المحتلة.

أجل، لقد نكبت الأمة العربية عام 1967م بكارثة كبيرة، لكن كانت هناك زعامة أبى عليها شرف أمتها إلا أن تكون في مستوى الحدث، فكان أن أبدت من الإرادة المحمودة ما أبدت، وعملت بقوة لتكون نتائج تلك الإرادة مشهودة ملموسة. وكانت حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية بالذات مدعومة بتلك الإرادة الفاعلة أكبر دليل على ذلك. وواكب تلك الحرب الاستنزافية العظيمة ضد العدو الصهيوني انطلاق مقاومة فلسطينية أبدت ما أبدت من بطولة، ولقيت ما لقيت من تشجيع يليق بتلك البطولة.

وكنت ممن يرون أن المقاومة هي الحل الوحيد لتحرير الأرض المحتلة؛ قراءة لسطور التاريخ، وتأملاً في مجريات حوادث الحاضر، وكانت عبارة: (ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة) - في نظري - صادقة كل الصدق. ولأن في طليعة حركات المقاومة الفلسطينية حينذاك حركة فتح بجناحها العسكري.. العاصفة.. كتبت قصيدة من أبياتها:

الحل عند (الفتح) عاصفة

تزداد عنفاً كل ملتحم

شهم فدائي وثائرة

وهجوم مقدام وضرب كمي

وكتيبة تمضي فتخلفها

أخرى تحيط الأفق بالضرم

وفيالق في الدرب زاحفة

لتدك صرح عدوة الأمم

وكان رأيي ذلك متفقاً مع رأي جندي بطل على الجبهة المصرية عام 1973م؛ فقد ذكر في إحدى رسائله إلى أمه:

أمي تبرمت من ذلي ومن دعتي

وهاج في دمي الإيمان والثار

ولم تعد فلسفات الصمت تخدعني

وإن تصغهن (أهرام) و (أخبار)

تعاقب السنوات الست أوضح لي

ضلال من جنحوا للسلم واختاروا

وأن تحرير أرضي لا تحققه

إلا دماء سقتها الأرض أحرار

غير أن ذلك الجندي البطل، الذي حقق مع رفاقه ما حقق من عظمة في معركة العبور وما تلاها، لم تكتمل فرحته؛ إذ ما لبثت الأمور أن انتكست، وتسللت فرقة من الجيش الصهيوني إلى غربي القناة. وكأني قد قلت على لسانه في قصيدة (الأساطير):

وتقدَّمت أقاتل

وتحولت إلى نار تدمِّر

غير أني

بعدما سطرت في التاريخ أنباء صمودي

وبدت في غرّة الكون تباشير انتصاري

أوقفوني

غرسوا في الظهر خنجر

وأتوني بمشاريع كسنجر

بدؤوا يحكون عن سلم وعن حلّ وسط

حقي الواضح بالزيف اختلط

فإذا الباطل بالأمس يعود اليوم حقا

وإذا الكاذب بالأمس يقول اليوم صدقا

أمس قالوا:

لا سلام

مع أعداء العروبة

وأنا اليوم أغني وأزمّر

لاقتراحات السلام

ولم تمض ست سنوات على ذلك حتى نجح قادة الكيان الصهيوني بدعم وترتيب من حلفائهم المتصهينين في أمريكا نجاحاً عظيماً في إخراج مصر العظيمة بإمكاناتها من ميدان المواجهة باتفاقية كامب ديفيد المشهورة، ثم توالت النكسات وتكسرت نصال الكوارث على النصال بفعل أعداء أمتنا من خارجها ومن داخلها، وحرّك الأمور مَن حرّكها، فأظهر طريف السكين للزعماء العرب، وأغراهم بحضور مؤتمر مدريد، الذي كان حضورهم إياه من أكبر الخدمات التي قدمتها إدارة بوش الأب للكيان الصهيوني؛ ذلك أن اجتماعهم بالصهاينة هناك كان حلماً ظل هؤلاء يحلمون به أكثر من أربعين عاماً، كما ذكر جيمس بيكر وزير خارجية أمريكا حينذاك في مذكراته المنشورة.

عندما قلت في أعقاب حرب 1973م مباشرة: إنه قد أصبح منا من يغني ويزمّر لاقتراحات السلام مع العدو الصهيوني، الذي رفضه قادة العرب المالكون لإرادة المقاومة الحرة، كما رفضوا التفاوض معه والاعتراف بشرعية وجوده على أرض فلسطين.. عندما قلت ذلك هل كنت إلا مستشرفاً لما ستؤول إليه الأمور؟ لم تمض ست سنوات إلا وقد عقدت اتفاقية كامب ديفيد، التي منح من أجل التوقيع عليها الرئيس المصري جائزة نوبل للسلام مشاركة مع مرتكب جريمة مذبحة دير ياسين وأمثالها مناحيم بيجن.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد