لا يمكن بأي حال فصل البيروقراطية بثقافتها وانغلاقها عن توأمها التاريخي المحسوبية، التي تتميز بطقوس وعادات وتقاليد عريقة في المجتمع العربي، وتدعمها سلطات تجعلها بصورة أو بأخرى تختفي عن الأنظار تماماً عند المحاسبة، لكنها تظهر في كامل حُلتها في المناسبات الاجتماعية، فالمحسوب لا يدخل ضمن حسابات العمل والأداء، ويخرج تماماً من دائرة المحاسبة وشروط كفاءة العمل، لكن أضراره الجانبية تكون عادة فتّاكة إذ تقتل عن سبق إصرار وترصُّد شروط الكفاءة، وتصيب أولئك الذين يحاولون تجاوز عنق الزجاجة إلى حيث النجاح الحقيقي بسهام الإحباط واليأس، التي عادة ما يكون مآل مصابها الاستسلام، ثم الاختفاء تحت مظلة الهروب إلى مكان آخر، أو الرضوخ إلى قدر البيروقراطية المتجمد عند نقطة التخلف والجهالة..، أو إعلانه الانضمام إلى قافلة المحسوبية التي تسير مرفوعة الرأس وبجدارة إلى الخلف، وغير مكترثة لنداءات مصالح الوطن العليا، وأرقام التنمية الوطنية ومشاريعها الإستراتيجية..
المحسوبية تعني استغلال النفوذ لتوظيف أو ترقية الأقرباء والأصدقاء أو أولئك الذين يُمثِّلون جانباً من جوانب المنفعة الخاصة، والمحسوبية لها جذور في الثقافة الإنسانية ومصدرها الإنجليزي هو NEPOTISM كلمة أصلها لايتيني ومشتقة من، NEPOS - التي تعني NEPHEW ابن الأخ أو الأخت، ففي العصور الوسطى كان بعض البابوات والأساقفة الكاثوليك يربون أبناءهم غير الشرعيين مدّعين بأنهم أبناء أخواتهم أو إخوانهم، وكانوا يُفضِّلونهم في التعامل على الناس الآخرين، وكان هناك عدد من البابوات من الذين لهم أبناء غير شرعيين وصلوا إلى مراتب الكاردينالية، وغالباً ما كانت تمهد مثل هذه المحاباة مثل هذه التعيينات لإقامة ما يشبه (عوائل مالكة) تحتفظ بكرسي البابوية لفترات أطول..
لكن هذا المفهوم تطوَّر كثيراً بالرغم من محافظته على اسمه القديم NEPOTISM ، فأغلب قوانين العمل في العالم تتبنى أنظمة تمنع توظيف الأقارب في مكان عمل واحد، وتشدد في منعها على أن يرأس أحدهما الآخر في مكان العمل المهني والإداري، وذلك لما له من آثار غاية في السلبية على جو العمل، فالعاطفة والانحياز عندما تهيمن، تختفي الشفافية والعقلانية والتنافسية في الجو المهني.. كذلك تغض الطرف عن تجاوزات الأقربين، لكنها تشدد في حزمها على الآخرين..
والمفارقة في هذا الشأن اختلاف مفاهيمه في الشرق العربي عن الغربي، فثقافة المسلمين لم تتطرق لهذا الشأن في القرون الأولى، بل إن البعض كان يراها كأحد وجوه صلة الرحم، وأن الأقربين أولى بالمعروف، وقد يكون سبب ذلك تأخُّر ثقافة العمل عند العرب، وحصارها في الطبقات الدنيا خلال تاريخهم الطويل، فالثورات الصناعية والتقنية والإدارية على مستوى الإنسان لا تزال حبيسة الزمن القادم، ولم تظهر لها بعد ملامح في أفق عالم العمل العربي، فالمحسوبية متجذِّرة وتحظى بشرعية داخل المجتمع العربي، وذلك لأن المكافأة ليست على التفوق في العمل والإبداع، ولكن لعلاقتها المباشرة بالقربى وغيرها من علاقات المنافع المتبادلة في المجتمعات التي تحكمها تقاليد القبيلة..
عندما تحكم المحسوبية مصالح الناس تظهر تبريرات المستفيدين منها إلى حد جعلها أحد وجوه الخير في المجتمع، وهو ما يؤهل المحسوبية ويشرعها للقيام بدور رفع الظلم في المجتمع، وهو خطأ جسيم لأن رفع المظلمة يجب أن يكون من مهام القضاء والجهات الرسمية، وليس عبر العلاقات الاجتماعية، وبصريح العبارة لا يمكن أن تقوم المحسوبية بدور حكومة ظل من نوع مختلف، لها مهامها الخاصة وإداراتها وزراؤها وموظفوها، وتملك قنواتها المتعددة، لأنها مهما تظاهرت بالقيام بالواجبات والمهام الاجتماعية إلا أن هدفها الأسمى والأهم يظل في تمرير مصالحها الخاصة، وإظهار سلطتها فوق السلطات القضائية والقانونية.