Al Jazirah NewsPaper Monday  04/05/2009 G Issue 13367
الأثنين 09 جمادى الأول 1430   العدد  13367
الإنترنت: الديمقراطية المستبدة!
د. عبدالرحمن الحبيب

 

أن تكون شعبياً يعني أنك مادة إعلان مفيدة في ثقافة الإنترنت، ويعني أن أفكارك ومشاعرك سلعة تباع في السوق.. كل شيء في ثقافة الإنترنت بضاعة تباع وتشترى حتى خصوصياتك الدقيقة! من هنا يقف المثقفون موقف الشك تجاه الثقافة التجارية التي يحتضنها الإنترنت...

...ليس لأن المثقفين يكرهون التجارة والمال، ولكنهم يخشون أن الثقافة قد تخسر استقلاليتها أمام الاندفاع التجاري بأحكامه السريعة وتحيزه لإرضاء المستهلكين ومجاملة الثقافة الشعبية، والتي قد تؤدي إلى سيطرة الغوغائية، كما عبر دانيال بيل الأستاذ في جامعة هارفرد.

ولكن مروجي ثقافة الإنترنت التجارية مثل ديفيد بروك صاحب الكتاب الأكثر مبيعاً عام 2000، يرون أن فصل الإنسان المعاصر عن الثقافة التجارية يعني فصله عن النشاط الأساسي للحياة العصرية. وعلى الطريق نفسه يمضي مالكوم جلادول في كتابة المشهور (نقطة الحافَّة): (The Tipping Point) طارحاً أفكاره في الجوانب النفسية والاجتماعية والثقافية ويحصرها كلها تقريباً في المسألة التسويقية.. ورغم أن الكتاب أقرب ما يكون للشأن التجاري، إلا أنه يظهر بمظهر الأدبي أو الاجتماعي؛ وفي ذلك ترى سارة كريشتون المحررة في نيويورك تايمز أن ظهور الكتاب وعنوانه كأدبي أو اجتماعي سيجذب المشترين أكثر مما لو ظهر على حقيقته التجارية.

بالنسبة لجلادول نحن في عملية تسويق بضاعة في كل لحظة في حياتنا.. عندما يتحدث إثنان، لا يدخلان في تناغم شفوي وجسدي، بل أيضاً في عملية محاكاة.. الابتسامة تجلب الابتسامة، والتقطيب يبعث التقطيب.. فالعاطفة معدية. وهذا يفسر كيف يستطيع البعض التأثير بشدة على البعض الآخر. وأفضل الناس نجاحاً هم الذين يعرفون كيف يُنتجون العاطفة (البضاعة) الأكثر تأثيراً.. الأكثر إرضاء.. الأكثر نمطية شعبية.. أما الابتكار فهو مغامرة قد تجلب الاستعداء.

لو ميَّزنا بين الثقافة الشعبية ونمط الثقافة الذي يُنشئه الإنترنت، نجد أن الأولى تعني الثقافة التي تملك أوسع إغراء لقطاع عريض من الناس. ورغم أن الابتكار هو جزء جوهري من خلق الثقافة الشعبية، فإن أغلب ما يحدث حتى الآن في الإنترنت هو تقليد الأعمال المبتكرة.. فثقافة الإنترنت أغلبها تنحصر في تقليد أنماط مرغوبة ومألوفة. الثقافة الشعبية تجذب الناس لما يحبونه، بينما ثقافة الإنترنت تجذب الناس لما كل فرد آخر يحبه.. الأولى متعة والأخرى بضاعة.

التصويت من أساليب جذب الجمهور بالإنترنت والتي امتدت لكافة وسائل الإعلام مثل (أمريكان آيدول) أشهر برنامج تلفزيوني في العالم.. التصويت على أفضل: أغنية، صورة، فيديو، قصيدة، تقرير صحفي، مقالة، قصة..الخ، والحُكم هنا يتراوح بين الشعبية والجدارة.. المرشحون المتنافسون يدركون أن الأولوية للشعبية، ويعرفون أن الابتكار في أعمالهم يعني المخاطرة بشعبيتهم، بينما تقليد أعمال مبتكرة سابقة نالت شعبية هو ضمانة لإرضاء المصوتين..

شكراً لأفكار جلادول فقد وضع ثلاثة عوامل تسويقية لجذب الجمهور إلى بضاعتك أياً كانت فنية، أدبية، تجارية، سياسية: عامل الشكل المؤثر: أي شيء يحبه المستهلكون، عامل اللصق بالذاكرة: أي شيء يلتصق بذاكرة المستهلك، عامل قوة السياق: أي شيء يناسب السياق المكاني والزماني والملابسات المحيطة بالوضع.. وأي شيء هنا تعني حتى لو كان خارج الموضوع أو خارج مجال المنافسة، لأن المهم هو جذب الجمهور وليس الجدارة.. لذا فإن كثيراً من الذين فازوا بالمركز الأول في التصويت في مجال ما لا يملكون أية خاصية أو ميزة فيه.

هناك فرق أساسي بين ثقافة النخبة أو الجماهير وبين ثقافة التسويق التجاري، وهي أن الأوليتين تهدفان إلى المتعة غير المرتبطة بالمصالح المادية.. متعة تُخرج الإنسان من الضغوط المادية في حياته، سواء بالفن الراقي أو بالتسلية الشعبية البسيطة؛ بينما الثقافة التجارية تتركز حول إرضاء مصالحك الذاتية، ومن ثم تحويل ذاتك إلى مشروع تجاري. في قلب الأدب النخبوي أو الشعبي يكمن شيء طازج وخبرة مبتكرة، ولكن في قلب الصفقة التجارية هناك إرضاء لمصالحك الذاتية وخبرة مكررة.

مروجو ثقافة الإنترنت التجارية، يحكون لك كثيراً عن الديمقراطية والحرية والمشاركة الشعبية.. كلمات تسحر الجماهير.. ومنهم المحامي لورانس لسنج المدافع عن المشاركة الكاملة للجماهير في إنتاج الثقافة والمرحب بالثقافة التجارية للإنترنت، يرى أن كل إنسان يستطيع بالإنترنت أن يضع ما يشاء من عمل مشاركاً الآخرين في الإبداع الذي سينتشر بين الجماهير.. فهذه هي الديمقراطية الحقة التي تستخدم التكنولوجيا لصالح الجميع. لسنج لديه خلط بين ما يجعل الديمقراطية ممكنة مع ما تجعله الديمقراطية ممكناً.

ما تجعله الديمقراطية ممكناً، هو مثال جوجل: أضخم وأهم مبحث للمعلومات في وقتنا الحاضر.. فعندما تبحث عن معلومة ستجد جوجل في انتظارك.. ولكن على أي أساس ترتب لك جوجل المعلومات؟ على أساس المواقع الأكثر استخداماً، أي الأكثر شعبية، وليس الأكثر مهنية أو تخصص أو علمية.. ومن هنا ذكر تيم أوريلي، رئيس أحد شركات الإنترنت، بوضوح أنه إذا كان الاتجاه للمدونات الإنترنتية التي تهتم بالتوجهات العامة، تميل نحو قيم معينة، فإن الناس سيتبعونها.. وهذه التوجهات يحركها رجال الأعمال وخبراء التسويق.

وإذا كان مبدأ الديمقراطية الإنترنتية جعل جوجل أكبر مبحث عالمي لمصادر المعلومات، فإنه جعل من ويكيبيديا أكبر موسوعة عالمية للمعلومات في الإنترنت يشارك في تحريرها الجميع.. ومؤسس هذه الموسوعة مثله مثل مؤسسي جوجل، مجرد رجل أعمال يبحث عن الربح.. وموسوعة ويكيبيديا يحررها الناس، أي إنسان متخصص أو غير متخصص أو حتى عابر يضع ما يشاء من معلومات في هذه الموسوعة.. بل تم رصد أطفال أدخلوا معلومات في تلك الموسوعة وبقيت لعدة أيام أو أشهر قبل أن تعدل أو تزال.. نعم حدثت فضائح مضحكة مبكية في التزوير والتشويه والتجهيل، تعترف بها ويكيبيديا بين وقت وآخر، وتعتذر عن ذلك، وتصحح وتعدل.. فهل يمكن أن نقارنها مثلاً بالموسوعة البريطانية التي تصدرها مؤسسات عريقة ويحرر كل حقل فيها علماء ومتخصصون مهرة، وكل كلمة فيها يتم تمحيصها لدرجة لا تجد من أي مختص مضاد ثقافياً أي معارضة على معلوماتها إلا قليلاً؟

إذا كانت المعلومات هي المادة الخام للمعرفة، فإن خلط المعلومات بالرغبات والنزوات الشعبية يجعلها مضادة للمعرفة.. وإذا كانت الديمقراطية المعاصرة تمنح غالبية الجماهير أن تعبِّر عن رأيها وتتيح لهم فرصة المشاركة، فإن صهر رغبة الجميع برغبة الأغلبية يحولها إلى استبداد.. وإذا كانت الأخبار تُقدم كبضاعة لإرضاء الزبائن، فذلك سيحولها إلى غوغائية..

والمثير للسخرية أن دعاة الديمقراطية الشعبية الإنترنتية الذين يرفضون وسائل الإعلام التقليدية الكبرى لأنها نخبوية مُحتكرة، أصبحوا لعبة سهلة في أيدي السياسيين ورجال الأعمال الذين لا يفرحهم شيء أكثر من اختفاء المثقفين الجادين والنُقاد المتفحصين والمبدعين المبتكرين.. وهنا نصل للحلقة الأخيرة من رحلتنا في كتاب (ضد المكينة) لمؤلفه لي سيجل.



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد