يحلو لي أن أصنف تجربتي مع أمريكا لغرض التأمل والذكرى إلى مرحلتين مفصليّتيْن: ما قبل 11- سبتمبر وما بعده، وأنا في هذه الوقفة القصيرة الملبّدة بسُحب الذكرى معنيٌّ بالمرحلة الأولى ما قبل ذلك التاريخ المدوّي في سيرة العالم، وقد شَددْتُ الرحال إلى أمريكا خلال تلك المرحلة مراتٍ عديدةً عقب عودتي منها أوائل السبعينيات من القرن الماضي محمّلاً بغنائم التحصيل الأكاديمي، ثم زُرتُها بعد ذلك في مناسبات متفرقة، إمّا لغرض رسمي أو للسياحة، وكنت في كل مرة أمضي فترة لا تقل عن أسبوعين ولا تزيد على شهر، وكانت معظم تلك الزيارات، رغم تباين أغراضها، حافلةً بمباهج التأمل العقليّ والنفسيّ معاً.
***
* وقد ساعدني الاستقرارُ في بلادي، بعد انقشَاع همّ الدراسة الجامعية والحلّ والترْحال نتيجةً لذلك على إعادة (قراءة) كثير من الظواهر الحسية والمعنوية التي يمور بها مسرح الحياة والأحياء في أمريكا، واستثمرت حواسي الخمس في (قراءة) تلك الظواهر، وقد تمنيت لو كان لي عشر حواس، لا خمس فقط، كيْ أشبعَ فضولَ التأمل، وأُخرس صهيلَ أسئلة عنيدة تعجُّ في خاطري!
***
* والذين يعرفونني جيداً يتساءلون في عجب وهم يقرؤون هذه الكلمات: ما سرُّ هذا الاهتمام بأمريكا بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود من الزمن تلت العودة منها خريجاً جامعياً، وبعد انقطاع عن زيارتها منذ صيف 1997م؟ ولِمَ الفضُولُ الذي يستنزفُ طاقةَ الحواس، وكأنّ صاحبَه في كل زيارة يطأُ تُرابَ تلك الديار أولَ مرة؟ ألمْ يغادره بعد حسُّ السائح.. وإحسَاسُ الغربة.. وهو الذي أطفأ بها باقةً من شموع عُمْره.. يوم كان طالباً؟ أم أن (طلب العلم) قد فتنه عمّا سواه، فلم يُشبع فضولَ السائح، ولم يروِّض حسَّ الغريب في وجدانه؟ وكلَّما عاد إلى (أماكنه القديمة) في أمريكا، مرةً تلو الأخرى، خلال عقد التسعينيات حتى قبيْل بداية هذا القرن، اكتشف ما غاب عنه في عقد الستينيات يوم كان يشقى بطلب العلم ويَسْعدُ في آن! تُرى.. هل نال منه الاستقرارُ في أرض الوطن منالاً جذّر غُربته في الأماكن التي عرفها وألفها بالأمس البعيد، فإذا هو اليوم تتلبسه حمى السؤال وفتنة الفضول؟! أم أن الأماكن القديمة في أمريكا نفسها تغيرت، أحياءً وجماداً؟!
***
* وأختزلُ الردَّ على كل هذه التساؤلات التائهة بكلمة واحدة لا لبسَ فيها ولا تِيه: نعم!
* نعم تبقى أمريكا بالنسبة لي سراً يستعصي على الفهم.. خصوصاً إذا كان في (حجم) فهمي المتواضِع! فهي تتغيّر بسرعة لا يدركها سباقُنا اللاهث نحوها معرفةً وتعايُشاً وإدراكاً!
***
* ونعم.. يزداد فُضُولي كلما عظم شعوري بالإخفاق في اختراق مجاهل ذلك السر، ومجاهدة التساؤلات التي تنْتثرُ على ضفافه، ذات اليمين وذات الشمال!
***
* ونعم.. ملأت الدراسةُ (دنياي) في وقت من الأوقات همّاً واهتماماً وصخباً، تخللتها ومضات من الفرح والقلق، فلم أُعرْ همّا آخر شأناً سواها! كنت مفتوناً بسباقي مع عقارب الزمن.. كي أدرك الغاية التي قدمت من أجلها.. وكانت الدراسة ضالّتي.. أسعى من خلالها لإحراز الشهادة الجامعية.. وربَّما ما بعد الجامعية.. قبل أن أعود إلى الوطن.
***
* كانت (خريطةُ) أمريكا يومئذٍ لا تكاد تتجاوزُ الجامعةَ التي أُوفدت إليها.. والشارعَ الذي سلكتُه منها وإليها.. والمأوى المتواضع الذي أقمت به بالقرب من الجامعة.. والمكتبة التي كانت شبه (سكنٍ ثانٍ) لي.. أرتادُها ساعاتٍ من ليل ونهار! حتَّى لقد (شَاع) عني ذات يوم في الرياض في بعض أوساط الأهل والأصدقاء أن مكتبة الجامعة سلّمتْني مفتَاحَها كي أرتادَها لحظةَ أشاء!
***
* رغم ذلك كله.. لم أستطع في مرحلة متقدمة من الدراسة ردْعَ شيء من اختناق بسبب (رتابة) الحياة الجامعية وما تستصحبه من كدٍ وعناء، فأمريكا لا يمكن أن تكون كلها جامعة.. وفصولاً.. وامتحانات.. وكتباً، وأرقاً في تتبع النتائج.. فرحاً وترحاً، وأقنعتُ نفسي خلال تلك المرحلة بضرورة العمل (خارج الدوام الدراسي) أو في الوقت الضائع منه! وهو ما تحقق لي خلال مرحلة متقدمة من الدراسة، وعبر الزيارات اللاحقة إلى العالم الجديد.. حيث تعلَّمتُ عن الحياة والأحياء هناك ما لم أكنْ أعلمُ، وتمكنت من إشباع هواجس الحواس البريئة، بقصد معرفة المزيد عن ذلك المجتمع بأطيافه وأصنافه، وخُيِّل إليّ بسبب ذلك أنني كدت أبلغ بها (مرحلةَ الفطام)، خصوصاً حين شعرتُ في مطلع السبعينيات من القرن الماضي أن أمريكا لم تعد تلك (العذراء) الفاتنة جمالاً وقوةً وبهجةً مترعةً بالبراءة!
***
* وجاء 11-9-2003م برُعْبه وأهواله وأحداثه الجسام ليضع حداً لتلك (الرومانسية) من التأمل، ويضع أمريكا والعالم في منعطف خطير مشحون بالمشاعر المضطربة، مما جعل محاولة الفهم لذلك العالم العجيب أكثرَ مرارة وأشدَّ تعقيداً!
***
وبعد..،
* هل تغيرتْ أمريكا بعد 11-9 إلى الحدِّ الذي يجعلنا نكاد نُنْكرها، شعباً وسياسات ومواقف؟ أم أنّنا نحن المسلمين والعرب قد تغيّرنا لأسباب تفتقر إلى الفضُول الأكاديمي لبحْثِها وتأصيلها؟ أم أنّ التغيّر قاسمٌ مشتركٌ بين الجهتين، أحدُهما سبب والآخر نتيجة؟! لستُ أدري!!