Al Jazirah NewsPaper Thursday  30/04/2009 G Issue 13363
الخميس 05 جمادى الأول 1430   العدد  13363

زيارة إلى جبل (كرا).. قبيل الافتتاح الثاني
طريق جبل كرا.. أسطورة عمرانية بدأت قبل خمسين عاماً.. ثم تتكرر اليوم على مصابيح الكهرباء

 

استطلاع وتصوير - حمّاد بن حامد السالمي

* رأيت جبل كرا أول مرة أثناء رحلة مدرسية ونحن في المرحلة الابتدائية نهاية عام 1384هـ. في العام الذي يليه 1385هـ، افتتح الملك (فيصل بن عبد العزيز)- رحمه الله- الطريق الجبلي الأسطورة الذي يبدأ من وادي نعمان في تهامة، صاعداً جبل كرا حتى قمته إلى الهدا، موصلاً بين مكة المكرمة والطائف بين العاصمة الدينية والعاصمة السياحية.

* ظل جبل كرا سنين عدداً، وهو يستعصي ويتأبى، ونتذكر جيداً، الرحلة النبوية الأولى للرسول صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه إلى الطائف، هذه الرحلة تمت بعيداً عن جبل كرا، وتحديداً عبر عقبة الثنية (يعرج) إلى الشرق منه بحوالي 20 كيلاً، وقمة عقبة يعرج لا يفصلها عن سهل وادي نعمان أكثر من ثلاثة كيلات تقريباً، بينما المسافة بين وادي نعمان وقمة جبل كرا عبر طريق السيارات تصل إلى عشرين كيلاً.

* هذا إذن.. هو (كرا).. الطود الشامخ بهامته المشرفة على وادي نعمان من الغرب، وسفوح جبال الهدا من الشمال والشرق، لم يُذل أو يُقهر إلا في النصف الثاني من القرن الهجري الفارط، والمحاولة الأولى التي جرت لتذليله وتسهيله، جرت في العام 430هـ، في عهد (حسين بن سلامة)، وهو نوبي وَزَر لأبي الحسين بن زياد صاحب اليمن على مكة، فعمّر طريقاً مرصوفة بالحجارة، مدرجة متعرجة، تسير عليها الجمال والحمير بأحمالها بين مكة والطائف، ثم جاء ابن له بعده فسد هذه الطريق، وهناك بقايا من آثار هذه الطريق ما زالت ظاهرة في كرا.

* أما تذليل عقبة جبل كرا وهي العملية الكبرى تلك التي تمت في العهد السعودي فهي بدأت - على ما يبدو فكرة رائدة في رأس نائب الملك عبد العزيز- رحمه الله- على الحجاز في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الهجري الفارط، فقد زار الأمير (فيصل بن عبد العزيز آل سعود) عام 1347هـ جبل كرا، ووقف عليه، واعتلى ناحيته الشرقية جهة دكة بافيل في تلك الفترة، وظل يتردد على كرا والهدا أكثر من مرة، ثم إن هذه الفكرة الحضارية الرائدة، دخلت مجلس الوزراء السعودي في السنوات الأخيرة من السبعينيات الهجرية من القرن الماضي، في عهد الملك (سعود بن عبد العزيز)- رحمه الله-، فقد كان ولي العهد الأمير (فيصل بن عبد العزيز)، هو رئيس الحكومة، ورأس جلسة مجلس الوزراء المكونة من 14 وزيراً، وطرح فكرة مشروع شق جبل كرا على بساط البحث والتصويت، فصوت مع المشروع سبعة وزراء، وصوت ضد المشروع سبعة وزراء، ورجح رئيس المجلس الأمير فيصل كفة (مع المشروع) بصوته في المجلس، لتأخذ الفكرة طريقها للتنفيذ، وهذه الرواية سمعتها مشافهة من الشيخ (عبد الله بن عدوان)- رحمه الله- وزير المالية والاقتصاد الوطني في تلك الفترة، وقد كان يتحدث لنا في داره بالطائف قبل وفاته رحمه الله.

* جاء العام 1385هـ، لتشهد المملكة حفل افتتاح أكبر مشروع حيوي للمواصلات بل أهم مشروع تشهده البلاد بعد توسعة الحرمين الشريفين فقد رعى الملك فيصل وقتها حفل افتتاح طريق الهدا وجبل كرا، فالتهبت قريحة الشعراء والأدباء تصف ضخامة الجبل واستعصائه وتأبيه، ثم استسلامه وتذليله وقهره بمشروع أسطوري غير مسبوق في المنطقة العربية مما جعل السيارات تتسلقه في خفة ودلال، فتصل عاليه بسافله في دقائق معدودات، بعد أن كانت الجمال والبغال تتعثر في جنباته، فلا تنهي رحلته المضنية إلا بشق الأنفس في يوم أو نصف يوم.

* يصف الشاعر (أحمد بن إبراهيم الغزاوي) هذا الجبل العظيم قبل المشروع بقوله:

كأن (كراء) في عتو (سنامه)

على (هامه) الأفلاك تجري وتلهث

كأن روابي الأرض نيطت جميعها

إلى سفحه ! وهو (الإباء) المورث

* وقبل الغزاوي بأكثر من مئتي سنة عبره الشاعر (محمد أمين المحبي) فوصف معاناته معه بقوله:

إن كرى خصم حياتي فلا

رأيته أخرى ولو في كرى

فراحتي من يومه أصبحت

كواصل لما رأتني كرى

وإن من أقطع روعاته

لج المكاري في كرا ما كرى

* أما الشاعر الشعبي فهو يصف معاناته مع (كرا) قبل فتحه وتذليله بطبيعة الحال فيقول:

ونّيت ونّة وانا معطي كرا وارتج نعمان

وارتج من ونّتي كبكب وقصر العابدية

* وبعد تذليل الجبل، وفتح طريقه الأعجوبة، قال الشاعر الغزاوي- رحمه الله-، وقال كثير غيره من شعراء عصره إلا أنا نكتفي بهذه الأبيات للغزاوي الذي قال:

(أمنية) وتحققت

ولكم تعاصت أعصرا

ما كان أن نحظى بها

يوماً ونطمع أن تُرى

لولا (السعود) وحظه

لأبى التطامن معبرا

(جبل) على هاماته

ولد الزمان وعمرا

بيناه في (جبروته)

متنفجاً متعصرا

أمسى وأضحى ضارعاًَ

مستسلماً مستأسرا

متزملاً (بعقوده)

و(سدوده) مستبشرا

من عهد آدم لم يزل

يصل الثريا بالثرى

* بعد أيام قلائل نحن على موعد مع حدث جديد وجليل سوف نعيش احتفالية حضارية ثانية ؛ تشهد على تسهيل وتذليل جبل كرا من جديد، فالطريق الذي اخترق جبل كرا قبل خمسين عاماً، أصبح اليوم طريقاً مزدوجاً، والمسافة التي كانت تقطع في ثلث ساعة، سوف تقطع اليوم في أقل بكثير، ويزيد المشروع بهاءً على بهائه في حلته الجديدة، إضاءته بالكهرباء، ونشاط حركي لـ 52 عربة تلفريك تديرها شركة الطائف السياحية، وهي تصعد وتهبط بين قمة الجبل وأسفله، رابطة بين فندق سياحي راق في القمة، وقرية سياحية في الكر، عند أطراف وادي نعمان، على مدار الساعة.

* الذين عرفوا جبل (كرا)، وعبروا منه صعوداً وهبوطاً يتذكرون جيداً مغسله ومعسله، حيث قمته ووسطه، ويتذكرون الكرّ، حيث نقطة استلام طريق وادي نعمان إلى مكة.

* إلى لقاء قريب في (كرا) ولكن : بلا (كرى)، ولا (كراء)..!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد