Al Jazirah NewsPaper Thursday  30/04/2009 G Issue 13363
الخميس 05 جمادى الأول 1430   العدد  13363

فيض الضمير
عبدالعزيز الرفاعي.. الأستاذ الذي تعلمتُ من إنسانيته (4-4)
د. محمد أبو بكر حميد

 

ظهر حب الناس بكل فئاتهم مثقفين وأدباء ورجال أعمال ومساكين وفقراء وأناس كثر لامست شغاف قلوبهم إنسانية الأستاذ فسكنت محبته هذه القلوب وذلك في حفل التكريم - وكان وداعاً حقيقياً له - الذي أقيم له في نادي جدة الأدبي في مساء الأحد 12-10-1413هـ غادر بعده إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعلاج..

وقد جسد هذا التكريم إجماع الناس على محبته، ففي تلك الليلة همس بعض الحضور لبعضهم مذكراً بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً وضع له المحبة في الأرض ونادى له ملكاً في السموات إني قد أحببت فلاناً فحبوه فوضعت له المحبة في الأرض). فوجئ الناس في تلك الليلة بالأستاذ يودعهم وداعاً حقيقياً حنوناً وهو يطل عليهم بحب من قمة السبعين التي بلغها في ذلك الشهر:

سبعون يا صُحبي وجل مصاب

ولدى الشدائد تعرف الأصحاب

سبعون ياللهول أية حقبة

طالت، وران على الرحيق الصاب

ويظل تواضعه العظيم يلاحقه في كل موقف يقفه مع الناس ويبلغ هذا التواضع أشده حين يسترسل صادقاً تتضوع بصدقه مشاعره:

سبعون ظن أحبتي أني بها

أُعلي القباب وما هناك قباب

أنا ما خدعتهم ولكن غرهم

حظي لديهم والحظوظ عجاب

وتضج القاعة بهمهمة الحضور عندما فجر الأستاذ ينابيع الأسى في قلوبهم وهو يقول بثبات المؤمن رغم تهدج صوته بحزن دفين فاضت به كلماته:

سبعون قد وفد الشتاء يزورني

والنار قد خمدت، وليس ثقاب

حنت إلى عبق التراب جوانحي

لا غرو يشتاق الترابَ ترابُ

وصمت عبدالعزيز الرفاعي - قبل أن يواصل إنشاده - لحظة مرت كأنها دهر ساد القاعة فيها سكون عجيب وشوهد كثير من الحضور يمدون أيديهم إلى مناديلهم يمسحون الدموع وجمدت دموع في عيون آخرين ظلت تترقرق من خلف نظاراتهم تستعصي على الحزن وتأبى أن تصدق ما سمعته. وواصل الأستاذ إنشاده ولكنه لم يقل أهم مما قال، ولم تستطع الأبيات التي تلت ذلك أن تخفف من الشعور بالحزن العميق الذي ساد القاعة وختم قصيدة ببيتين أولهما كان أكثر ما يكون انطباقاً عليه نفسه وثانيهما تفاؤل بالعمر المديد لهم ممن يحمل مثل قلبه وحبه:

طوبى لمن جعل المحبة جدولا

وسقى أحبته فطاب وطابوا

سبعون عشتم مثلها بل ضعفها

والحاديان: سلامة وصواب

ولن أنسى ما حييت أيامه الأخيرة على السرير الأبيض بمستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض حيث أصر على استقبال الناس رغم ظروفه الصحية الحرجة ورفض تماماً منع أي إنسان من الدخول عليه وإن سبب له ذلك ألماً.

كنا نتعلم من صبره وكان هذا الصبر على الناس وعلى الألم أهم الدروس التي تعلمها منه الذين عاشوا إلى جواره، فالاستماع إلى المواعظ عن الصبر في السعة والراحة لا يعلم الصبر بقدر ما يعلمه إنسان تراه يتألم أمامك صابراً محتسباً في صمت وهكذا كان عبدالعزيز الرفاعي طوال حياته لا يشكو إنساناً ولا يظهر ألمه من أذى ولا يرجو إلا رحمة ربه مؤمن بوعده لأمثاله من الصابرين: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).

وأردت أن أجزيه ببعض الوفاء في حياته فكتبت عن نثره وشعره في أيامه الأخيرة تلك، وكنت أتردد عليه كل يوم بصحبة صديقه الحميم الشيخ عبدالله علي بامقدم. وبعد نشر المقال أبلغني الشيخ بامقدم أن الأستاذ اتصل به وكان سعيداً بقراءة ما كتبت عنه ومعجباً بوفائك خاصة وأنك لم تكن من اللصيقين به ولا من القدامى في ندوته. وفي اليوم التالي ذهبنا لزيارته فبادرني بالقول: (يا ولدي يا محمد لقد أهديتني بما كتبت حديقة ورد ما أرى مثلي يستحقها كلها فيكفيني منها باقة!!) فقلت له: (عشت أنت للناس ولازلت وستظل حديقة ورد تتضوع بينهم عطراً وتؤلف قلوبهم حباً وتثمر فيهم وفاء فإن قدمت شيئاً فما أنا إلا ثمرة وفاء من شجر حديقتك) فتأثر ومد إليّ يده فنهضت نحو سريره وانحنيت أحتضنه وأقبل رأسه وما كنت أحسب أني أودعه الوداع الأخير. ولما نظرت إلى جواره رأيت عدة كتب فتعجبت كيف يقرأ وهو على هذه الحال ولاحظ أنني كنت أنظر إلى الكتب وربما أدرك ما يدور بخاطري فبادرني بالقول: (هذا آخر ما وصلني من إصدارات الحياة الثقافية والفكرية أحاول متابعة ما فاتني) وبدأ يتحدث عن كتاب معين أعجبه ثم صمت لحظة وقال: (نبينا صلى الله عليه وسلم يحثنا على طلب العلم من المهد إلى اللحد). وشعرت أن هذا الكلام إجابة على التساؤل الذي يدور في ذهني. وأشفقت عليه من الاستمرار فقد بدا عليه الإجهاد وكان يتحامل ويهرب بنا من الحديث عن صحته ومعاناته ويحاول أن يشعر كل زائر له وكأنه يزوره في بيته أو يحضر ندوته فيبتعد عن كل ما يذكر الزائر بالمرض والألم. وعندما وقفت مودعاً قال لي: (يجزيك الله عني وفاء يا محمد تراه في دنياك فإن ما كتبت عني أسعدني وأراه آخر بسمة تطل علي من وجه الدنيا قبل أن...) وصمت ولم يكمل فعدت إليه وقبلته قائلاً: (ستعيش يا طويل العمر حتى ترى كل ما تتمنى) فضحك فقال: (ما أتمناه لأمتي لا لنفسي كثير يستغرق عشرات السنين أسأل الله أن تدركه وتشارك فيه) وأحدث هذا الكلام انفراجاً في جو الحزن الذي ساد وغادرت غرفته وأنا أقول له: (سأعود إليك غداً إن شاء الله).

وفي ظهر اليوم التالي أبلغني صديقه الحميم الشيخ عبدالله بامقدم بحزن شديد أن الأستاذ دخل غيبوبة ونقل إلى جدة حيث توفي ودفن في مكة المكرمة رحمة الله عليه ورضوانه.. نعم وكما ناجى يونس ربه وهو في بطن الحوت أكرم الله عبدالعزيز الرفاعي بطوق النجاة الذي تمناه وناجى به ربه:

ارم طوق النجاة يا رب إني

في خضم، ولا أجيد السباحة

تترامى الأمواج من كل صوب

لجة فوق لجة منداحه

في فمي من عبير ذكرك عطر

وبقلبي من عطرك راحه

حينما تطبق الدياجير فوقي

أجد الفجر مشعلا مصباحه

فماذا قدمنا له غير بحار من الدموع سكبناها عشية وفاته وأطنان من الكلمات حبرناها على صفحات الجرائد لعدة أيام ثم مضى كل منا لحال سبيله مشغولاً بشؤون دنياه! وأهم ما تركه عبدالعزيز الرفاعي شعره الغزير الذي يشكل ديواناً كبيراً - صدر مؤخراً - نأمل أن يغير رأي النقاد فيه من شاعر اجتماعي فلسفي مقل إلى شاعر غزير متمكن متعدد الأغراض.

لكن حياة الأديب المبدع الأصيل لا تنته بوفاته، بل تستمر وأحياناً تبدأ بعد وفاته، وقد عرف تاريخ الأدب الإنساني الكثير من الأدباء الذين كانوا في حياتهم نسياً منسياً أو الذين لم تكن لهم في حياتهم شهرة كبيرة، أو ذيوع صيت، ثم بعثت أعمالهم بعد وفاتهم بسنوات أو بعشرات السنين أو بعد قرون، فأعادتهم إلى الحياة، وقد يظلم أدباء في حياتهم لسبب من الأسباب أو لتواضعهم وزهدهم في الظهور والمظاهر، فلا يلقون الاحتفاء بهم وبأعمالهم في حياتهم، حتى يأتي من يعيد اكتشافهم بعد وفاتهم فيعودون مجدداً إلى الحياة ويبقون في أذهان الناس وفي وجدانهم فيعيشون حياة أبقى وأجمل وأعظم من الحياة التي عاشوها بأجسادهم.

ولا شك أن نشر بعض مؤلفات أديبنا المخطوطة قد أنعشت ذكراه رغم أنها لم تجد من الاحتفاء النقدي ما يجب أن تلقاه، لكن النقد المنصف الوفي لابد أن يقول كلمته في يوم من الأيام ويعيده إلى الحياة مجدداً، فقد كان رحمه الله يردد دائماً: (إن الرأي الحقيقي لا يقال إلا بعد وفاة الأديب) وربما لأجل ضمان نزاهة هذا الرأي أجَّل نشر أكثر أعماله، فإذا بها تبعث اسمه مجدداً إلى دنيانا وتنتظر الكلمة الصادقة النزيهة التي خدمها طوال حياته، وذكره لا يزال عطراً يتضوع بيننا فينعش الروح ويثري العقل ويجدد الحياة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد