طبعاً المال محبب للنفس، قرين الولد، بل حبه مقدم في مواطن كثيرة على حب البنين، وحبه ليس أمر طارئ أو أنه من الخارج بل هو مغروس داخل ذواتنا منذ الصغر لا نستطيع الفكاك منه غالباً إلا بالتهذيب والتربية والتأديب، ومن نافلة القول هنا إن الإسلام لم يطالبنا بالنزوع إلى الصوفية المغرقة في الروحانيات ولم يقبل منا الانغماس في الماديات حتى النخاع بل جعل التوازن في دروب الحياة هو المنهج المطلوب وهذه هي الوسطية التي يحيى عليها الإنسان في جميع أموره.. إن هذا الدين ليس علاقة بين العبد والرب فحسب بل هو تنظيم للحياة الدنيوية أيضا، له نظام اقتصادي يضبط إيقاع حركة الإنسان في لهثه وراء الثراء والثروة، وخلافاً لليبرالية الرأسمالية الأصل في الإسلام تفتيت الثروة لا احتكارها ولذا من المترشح ألا يكون من أثرياء العالم مسلم!!، ولا أدل على ذلك من أحكام الميراث في الفقه الإسلام فهي تفتت ما جمعه المورث على عدد من الأشخاص ذكور وإناث أصول وفروع، لتبدأ دورة تكوين رأس المال من جديد، ولكن السابر للواقع المحلي المعاش المتغلغل في نسيجه الداخلي سيجد وللأسف الشديد أن هناك قضايا متأزمة بين الورثة بسبب الميراث، مشاكل عديدة ومعقدة بل ربما مقاطعات وخلافات ومشاحنات وشكوى ومحاكم وجلسات بسبب قسمة الميراث التي لم يتركها الله لأحد من خلقه بل تكلف سبحانه وتعالى ببيانها وحدد معالمها بشكل قاطع دلالة وثبوتا، وقد يتعذر حل هذه المشاكل ويتعسر مع الأيام الإصلاح والوفاق أو حتى الحديث عنها بسبب تعنت هذا وإعراض ذاك، ولم يكن هناك من سبيل أمام العقلاء من الورثة والأقارب سوى صرف النظر عن المال الموروث وكأنه لا وجود له رغم حاجة الورثة أو حتى بعضهم لهذا المال سواء أكان نقداً أو عينا وذلك من أجل رأب الصدع وسلامة الكيان الأسري الواحد بعيداً عن المشاحنات والتشنجات التي هي إفراز لما في النفوس من رغبة جامحة في المال ولو لم يكن هو النصيب المقرر شرعا، والأدهى والأمر أن هناك من يريد قصر الميراث على الذكور دون الإناث أو التقليل من نصيب البنات حتى لا يذهب مال المورث للزوج الغريب، بل قال لي أحد الزملاء يوم ما أن هناك بطريقة أو بأخرى من يقصر الميراث على الابن الأكبر وللأسف الشديد وهذا ليس من العدل والإنصاف في شي بل هو الظلم بعينه!!، أكتب هذه الكلمات وأنا أفتش في ذاكرتي عن أمثلة حية أدلل بها على ما ورد أعلاه، وأصدقكم القول إنني وفي دائرة مجتمعي القريب تذكرت عائلتين بل ثلاث وربما تعرفون مثل هذا أو أكثر مال مورثهم ما زال عصيا عن التوزيع كما هو نص كتاب الله عز وجل، وأزمة الميراث هذه تتعقد مع الأيام وكلما كثر مال المورث وتعددت زوجاته وتفرق أبناؤه كلما صعب حصر ما خّلفه من تركة وتعقدت القسمة بخاصة أن الكثير منا لا يدُون وصيته ولا يكتب ماله وما عليه مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه والمتفق عليه: (لا يبيتن أحدكم ليلية أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) يقال هذا في مجتمع لا يعرف القراءة والكتابة آنذاك، وفي هذا تذكير للإنسان بقرب الموت (تحت رأسه) وبيان لأهمية ترك الورثة على دراية وعلم بكل ما لدى المورث من دور وعقار ومال وكل ما عليه من دين، ولو مات أحد الورثة وخلفه أبناء وبنات ومات آخر وقس على ذلك لأصبحت العملية أكثر تعقيداً وأصعب حلا، وتتعدى هذه الإشكالية في آثارها السلبية دائرة العائلة إلى المجتمع المحلي فالأراضي التي عليها مشاكل وسط مدننا تعتبر معوقاً أساس من معوقات التخطيط الأمثل للأحياء القديمة وقد عرف هذا من نقاش على مائدة الحوار مشكلة الأحياء العشوائية في المدن، والعاملين في هيئات التطوير والأمانات. إنني أشد على أيدي الدعاة والمصلحين لطرح هذه الإشكالية المجتمعية والاهتمام بها ومناقشتها من أجل التوعية بخطورة الأمر خاصة إذا كان على الميت دين عالق بذمته، كما أن من الأهمية بمكان إعادة النظر من قبل وزارة العدل بما يسمى (هيئة النظر) والحرص على اختيار الأكفاء أهل الدراية المتجددة والعلم الشرعي الواسع والنظر المستقبلي المبني على الخبرة والتجربة، وليتق الله أهل الرأي والكبار في الضعفاء والمعوزين داخل الأسرة الوارثة الواحدة ولتحتوى المشاكل بعيدا عن المحاكم والتدخلات وليتذكر الجميع الواجب في حق مورثهم وليبادروا لحل هذه الأزمة العائلية مهما كانت صعبة لتصلح الأمور وتستقيم الحياة على الحب والمودة والوئام والسلام.