حاوره - عبدالله البراك - تصوير - سعيد الغامدي:
مشهدان أحدهما داخلي تمثل في تفاقم أزمة المياه باستنزافها في زراعة الحبوب والأعلاف, وخارجي تمثل في تنامي أزمة غذاء عالمية ضربت العالم عامي 2007 و2008م حيث شح المواد الغذائية وارتفاع أسعارها، هذان المشهدان تقاطعا في فترة زمنية واحدة، ما أدى لتحرك حكومي سريع للتصدي لأثارهما السلبية بقرارات سريعة وحاسمة حيث قررت الحكومة خفض شراء محصول القمح من المزارعين بنسبة 12% سنويا، ليتم الاستغناء عن شرائه محليا بعد 8 سنوات، كما أطلقت مبادرة خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- للاستثمار الزراعي في الخارج، وتم استكمال هذا النهج الجديد بصدور قرار مجلس الوزراء بتأسيس (الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني) مؤخرا برأسمال يبلغ 3 بلايين ريال للاستثمار في مشاريع تستهدف تحقيق الأمن الغذائي والمساعدة في استقرار أسعار المواد الغذائية في المملكة وهي مملوكة بالكامل لصندوق الاستثمارات العامة.
ولمعرفة واقع الاستثمار الزراعي في الخارج وتجربة القطاع الخاص المحلي في هذا الإطار كان لـ لجزيرة) هذا اللقاء مع الدكتور خالد الملاحي الرئيس التنفيذي لشركة الراجحي الدولية للاستثمار والتي تستثمر في حوالي 1000 كيلو متر مربع من الأراضي الزراعية في مشروعي توشكا والكفاءة بمصر والسودان.
الشركة الحكومية والاستثمار الزراعي
* مبادرة خادم الحرمين الشريفين للاستثمار في الخارج جاءت استجابة لتحولات جذرية يشهدها القطاع الزراعي وتغير في خارطة الأولويات د. خالد كيف تقرؤون المبادرة؟
- صياغتكم للسؤال تقودني إلى قراءة ما هو ابعد من مجرد المبادرة وحصرها في القطاع الزراعي فقط فما جرى يمكن قرأته في إطار تحرك إستراتيجي يعكس سرعة استجابة القرار الحكومي للتحولات والتغيرات داخل الاقتصاد المحلي والعالمي والتعاطي معه برؤية شمولية تعظم المنافع بشكل جمعي ولا يسعني هنا سوى أن استذكر مقولة عميقة لأحد المفكرين الإداريين حين قال في معرض تعليقه على مستقبل القطاعات الاقتصادية إنه حين لا تعلم إلى أي المواني يذهب المركب فإنك لا تستطيع تحديد أي اتجاه رياح انفع لمركبك والشاهد هنا أن صانع القرار السعودي لم يغفل عن التحولات الجذرية التي يشهدها العالم وانعكاساتها على الواقع المحلي والتحديات التي تواجهها القطاعات الاقتصادية الإنتاجية ولذا فإنه ساهم في صياغة القرار ذي الإبعاد المختلفة الذي يتجاوز المنافع الوقتية إلى رسم طريق جديد يفعل تنافسية القطاع داخل المنظومة الاقتصادية والاجتماعية فالتحديات البيئية ونقص المياه واستثمار الأراضي الخصبة والتأمين الإستراتيجي لتدفق السلع الغذائية الرئيسية إلى البلاد دعت لإعلان المبادرة الملكية الكريمة لاستكمال منظومة الأمن الغذائي الوطني بمفهومه الشامل ودعم آفاق نمو الشركات بما يحقق استمرار التراكم الرأسمالي والمعرفي لديها والذي يصب في خدمة الاقتصاد الوطني وتنافسيته.
ولاشك أن المبادرة جاءت في الوقت المناسب حيث المعاناة العالمية في تامين إمدادات المواد الغذائية الأساسية الأمر الذي ترجمته الارتفاعات المتلاحقة في أسعار المواد الغذائية وما هو أخطر من ارتفاع الأسعار أن العالم بدأ يتخوف من فجوة سلبية بين المطلوب والمعروض جعلت البعض يبحث عما يكفيه من الغذاء بغض النظر عن السعر، والمبادرة لم تكن طرح تنظيري بقدر ما كانت طرح عملي واقعي.
* من وجهة نظركم كمستثمرين كيف ترون إطار العلاقة بين الشركة الحكومية التي تم أنشأها والقطاع الخاص المحلي؟
- الشركة الحكومية ستضطلع ولاشك بدور هام ولن تكون منافسا للقطاع الخاص بقدر ما تكون مساندا وداعما للاستثمارات الزراعية للقطاع الخاص السعودي في الخارج ويمكنني استنتاج ذلك من خلال أهدافها التي تم إعلانها مبكرا ويمكنني الانطلاق من تلك الأهداف لتصور تقديمها ضمانات بنكية أو تمويل أو المساهمة في شراكات مع الشركات العاملة ذات الخبرة في القطاع والاستثمار الخارجي لعمل بنية تحتية في بعض الدول المستهدفة للاستثمار الزراعي الخارجي والتي يحتاجها المستثمر الزراعي السعودي. كما يمكن للشركة المساهمة في تذليل العقبات القانونية والضمانات للبنوك الممولة نيابة عن المستثمر إذا تأكدت من جدية المستثمر وبعد تحليل المشروعات من خلال أذرعتها الاقتصادية وهذه الصورة ستوفر ولاشك علاقة تكاملية لا تنافسية بين القطاع الخاص المحلي والشركة لتوفر الغذاء وإمداداته إلى أرض الوطن بشكل مستقر.
* كيف يمكن للشركة الوليدة أن تستثمر الخبرة الزراعية لدى القطاع الخاص المحلي لتحقيق أهداف المبادرة؟
- هذا السؤال يقودنا إلى الحديث عن هيكل الملكية في رأسمال هذه الشركة وهل ستطرح كمساهمة عامة أم أن هناك ائتلاف من القطاع الخاص أم تمويل حكومي كامل.. وأعتقد أن هناك أفكار كثيرة بهذا الخصوص ولكن أحد الأفكار التي تبلور التكامل بين القطاع الخاص والشركة الحكومية بما يحقق أهدافها قد يتحقق في صيغة استحواذ هذه الشركة على حصص أغلبية داخل شركات زراعية محلية تملك تراكم خبرات ومعارف وبالتالي تمكن الشركة الجديدة من اختزال عشرين أو ثلاثين سنة من تراكم الخبرة ويمكن النظر إلى هذه الخطوة باعتبارها تحرك معاكس لما قامت به الحكومة في علاقتها بشركة سابك فنموذج سابك بدأ بنسبة مئة في المائة ملكية للدولة ثم طرح نصيب منها للاكتتاب والآن تدار بكفاءة من قبل القطاع الخاص وفي نموذج الشركة الزراعية القابضة الآن يمكن أن يحصل العكس من خلال استحواذها على حصص في شركات زراعية محليه ناجحة.
* كثير من المتابعين والمهتمين بالشأن الزراعي في المملكة يتساءلون بعد طرح مبادرة خادم الحرمين الشريفين للاستثمار الزراعي بالخارج حول مستقبل الزراعة في المملكة؟ كيف ترون الأمر؟
- الحقيقة أن سبب اللبس الذي نشأ لدى البعض يكمن في اختزال مفهوم الزراعة في المملكة بالقمح والأعلاف وهذا الأمر فيه إجحاف كبير للقطاع الزراعي فالزراعة أوسع بكثير من سلعتين، والتوجه الجديد يستند إلى دعوات علمية تؤكد على ضرورة التوازن بين الاستهلاكات وتأطير السياسة المائية بما لا يؤثر على استنزافها وعليه فإن التوجه للاستثمار في الخارج سيقتصر فيما اعتقد على دعم المشروعات التي توفر سلع غذائية لا يمكن توفيرها بالاستثمار الزراعي المحلي وتساهم في استنزاف المياه الجوفية التي تمثل تحديا مستقبليا للمملكة ودول المنطقة وعليه فإني أرى بأن مستقبل الاستثمار الزراعي المحلي وأعد وسيكون أكثر كفاءة وتوجيها نحو المشاريع النوعية ذات القيمة المضافة كما ستفتح المبادرة آفاق جديدة وتضمن دعم ونجاح مبادرات استثمارية إستراتيجية وبتطبيق هذه الرؤية المتكاملة سيتحقق بإذن الله مفهوم الأمن الغذائي الوطني بمفهومه الواسع والشامل.
* د. خالد بالنظر إلى تجربتكم في الاستثمار في الخارج قبل عدة سنوات من الآن وقبل إعلان المبادرة؟ ما الذي دفعكم إلى الاستثمار في الخارج مبكرا؟ وكيف تقيمون التجربة؟
- التخطيط جزء من عملية مستمرة تتبناها الشركات وكما قال أحد منظري الإستراتيجيات العالميين فإن الغد لا يبدأ من اليوم بل من الأمس ونحن في الشركة نملك رصيدا كبيرا من الخبرات والدراسات الاستشرافية لمستقبل القطاع الزراعي في إطار دوائره الثلاث العالمي والإقليمي والمحلي هذا البعد التخطيطي مكننا من إدراك تحول قادم ستضطر الزراعة المحلية إلى التوقف عن إنتاج بعض المحاصيل نظرا لاستنزافها مخزون المياه وعدم جدوى استمرارها، وقد بدأنا في الشركة قبل عدة سنوات من الآن في مسح جغرافي شامل حول العالم حددنا خلاله أكثر الأراضي الخصبة محصولا وحددنا التنوع الذي تحتويه تلك الأراضي كما قمنا بتحليل مخاطر المشروعات SOWT Analysis والبيئة الاستثمارية في كل مساحة جغرافية PEST Analysis واعتمدنا تسجيل البيانات وإعادة تحديثها دوريا وفق المتغيرات القطاعية الاقتصادية والتحولات السياسية والاجتماعية معتمدين على شركاء إستراتيجيين يملكون Knowhow وأذرعة محلية قادرة على الوصول إلى أكثر البيانات دقة ولذا فلا أبالغ حين أقول بأن خطواتنا الاستثمارية والتوسعية في الاستثمار في الخارج تستند إلى بنك معلومات ومخزون معرفي حول القطاع الزراعي بمفهومه الواسع والأبعاد المؤثرة فيه وقد ساعدنا على تطوير هذه الرؤية الاستشرافية في التعاطي مع القطاع الزراعي رصيد محلي لاستثمارات زراعية للشيخ سليمان الراجحي داخل الوطن تمثلت في تجربة شركة الوطنية الزراعية التي تتوسع بطول المملكة وعرضها امتدادا من منطقة الجوف إلى القصيم وحتى وادي الدواسر بمشروعات نوعيه تتماشى مع رؤية السياسة المائية الجديدة في البلاد.
أعود للاستثمار الخارجي وأؤكد أن معايير تحديد الأراضي الخصبة في جميع استثماراتنا استندت إلى الدراسات الاقتصادية واستقرار بيئة الاستثمار وبعد دراسات مستفيضة حددنا فيها عوامل النجاح وتحديات كل تجربة استقر قرارنا على ثلاث دول هي مصر والسودان وأوكرانيا باستثمارات تصل إلى مليار ونصف المليار ريال بمساحة مجتمعة تقل عن 1000 كيلو متر مربع بقليل، ويعد مشروعا توشكى بمصر وشمال السودان أكبر المشاريع الاستثمارية الزراعية للقطاع الخاص بالخارج إذ تبلغ مشاريعنا الزراعية مجتمعة في الدول الثلاث 94500 هكتارا، وقد بدأنا العمل في مشروعاتنا منذ عدة أشهر وسنستكمل العمل فيها بإذن الله بزراعة كامل المساحات خلال عام 2010م، وسنكون جاهزين للتصدير بمشيئة الله في النصف الأول من عام 2010م. وقد تقدمت إلينا طلبات بالمشاركة في مشاريعنا من قبل شركات ومستثمرين أوروبيين غير إننا فضلنا المواصلة ليقيننا بجدوى المشاريع وكذلك لحرصنا على استقلاليتها فنحن نراها أذرعه استثمارية إستراتيجية نتمنى أن تساهم بدورها المؤمل في تأمين الاحتياجات الزراعية للوطن وقد حرصنا في اتفاقياتنا مع تلك الدول والتي استمرت لشهور عدة على السماح لنا بالتصدير لأي مكان نشاء ولكن يجب أن أؤكد في هذا الشأن أن الاستثمار الزراعي في الخارج مكلف ويتضمن مخاطر جمة وليس بالسهولة التي قد تبدو لبعض المستثمرين أو كما تصوره الوفود الدولية الزائرة فهي كمن يقدم نصف الخريطة!
الأمر ليس كما تصوره الوفود الزائرة
* تحدثتم عن المخاطرة التي يتضمنها الاستثمار الزراعي في الخارج هل لكم أن توضحوا لنا أبعاد هذه المخاطرة وكيف يتغلب عليها المستثمر الزراعي السعودي؟
- المخاطرة التي قد لا يتنبه لها المستثمر التقليدي تكمن في أن القطاع الزراعي في أي دوله يمثل نسيجا اجتماعيا محليا وفسيفساء إنتاجية قد يختلف بعضها عن الأخر الأمر الذي يستلزم معه أن لا يكون المستثمر مجرد مستثمر شامل ولا حتى مستثمرا زراعيا تقليديا بل مستثمر زراعي يملك خبرة دولية متراكمة في التعاطي مع الأرض والآلة والإنسان والبيئة بجميع تفاصيلها بما لا يعطل العملية الإنتاجية حيث نعلم جميعا صعوبة السيطرة على فترات الإنتاج المختلفة بنفس الكفاءة فالإنتاج الزراعي يتطلب دعما لوجستيا متواصلا ومعقد التفاصيل والذي يعتمد بشكل كبير على منظومة التشريعات والإجراءات في تلك البلاد وعلى البنية التحتية القائمة فيها من طرق وموانئ ومحطات كهرباء وأنظمة ري ومواصلات وغيرها.
* يقول الاقتصاديون إن الأزمة المالية ساهمت في تحويل دفة الاستثمارات والتمويل نحو القطاعات الإنتاجية الحقيقية.. والقطاع الزراعي تاريخيا ينظر إليه كأب روحي للقطاعات الاقتصادية ومحرك رئيس في عمليات الإنتاج الحقيقي كيف ترون واقع ومستقبل تمويله؟
- العلاقة بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي علاقة وثيقة أو يفترض بأن تكون كذلك والأدوات الاستثمارية المالية في حقيقتها ليست سوى وقود لتوسيع وتسريع حركة العمليات الإنتاجية الحقيقية، غير أن مطبقي النظرية الرأسمالية في الجزء الشمالي من الأرض لم يدركوا تحديد سرعات الاقتصاد المالي لكي لا يكون وبالا على الاقتصاد الحقيقي وهو الحادث الارتدادي الذي أفرزته الأزمة المالية العالمية. فالواقع أن الاقتصاد الحقيقي من خلال تعدد وتنوع عملياته الإنتاجية هو المساهم الأكبر في رفع وتحسين مستوى معيشة الإنسان وإذا كان للازمة من جوانب إيجابية فهي الكشف بأن التوسع في صناعة المشتقات المالية والمبالغة في تداولها يعرض الاقتصاد الحقيقي نفسه إلى الانحسار والتقلص الأمر الذي ينعكس سلبا على مستوى ونوعية المعيشة للإنسان.
والقطاع الزراعي كما وصفته بالأب الروحي للقطاعات الاقتصادية هو كذلك وهو أحد قطبي رحى في تحسين مستوى المعيشة مع القطاع الصحي باعتباره سلة المؤونة للغذاء الصحي الذي يساهم في بناء إنسان قادر على الإنتاج والتفاعل مع محيطه الإنتاجي الاقتصادي بفعالية والوقت الحالي ولاشك يمثل أنسب الأوقات للاستثمار في الأصول الحقيقية ومنها القطاع الزراعي وقد لمسنا في شركة الراجحي للاستثمار الزراعي حاليا أن أي طلب تمويل لنا مرحبا به بشكل كامل من أي ممول بشكل اكبر من الفترة قبل عام، بل إن بعض الممولين أصبحوا يقدمون لنا العروض التمويلية والتسهيلات والسبب يعود إلى أننا نعمل في أصول حقيقية وننتهج طرق الاستثمار الاحترافية.