ظهرت في السنوات الأخيرة كتابات صحافية لمجموعة من المثقفين والكتاب السعوديين الذين يحاولون من خلالها الإجابة عن سؤال واقعي مهم يتمحور حول كيفية الخروج من مأزقنا الحضاري، وتقديم أنفسنا للعالم بصورة مشرقة عن المجتمع السعودي..
.. تُبدد الصور السلبية التي التصقت بالذهنية العالمية عن المسلمين عموماً، خاصةً أن المملكة تشكل قلب العالم الإسلامي. الإجابة عن هذا السؤال المحوري في واقعنا المعاصر دفعت ببعض الكتاب والأكاديميين إلى الحديث عن (التنوير)، أي استثمار (العقل) ناقداً رئيساً للفكر السائد في المجتمع عن طريق الأعمال الثقافية والأدبية والعلمية لكل مجالات الحياة، فيكون أول خطوات الخلاص الحقيقي من التردي الحضاري، فيما يرى فريق آخر أن (الفلسفة) هي السبيل إلى تفعيل كل الطاقات الكامنة في النفس البشرية، من خلال تحرير العقل من الأفكار السائدة، لأن الفلسفة تفتح كل المدارات والأفهام لكل الأسئلة بحثاً عن إجاباتها، بينما يرى فريق ثالث أن الخلاص هو في تبني النهج الليبرالي في الحياة، لأن هذا النهج يحقق (الحرية الفردية) و(الاستقلال بالرأي) و(حق الاختيار)، وهذه الأمور هي الأرضية التي تقوم عليها (الفلسفة) حتى يعم (التنوير) في أرجاء المجتمع، كون العقل يأخذ دوره الطبيعي في البناء الحضاري والمدنية المطلوبة.
لكن السؤال الأهم: من أين نبدأ في مجتمعنا السعودي المحافظ؟ نبدأ من ممارسة الفلسفة أم من إشاعة التنوير أم من تطبيق الليبرالية؟ الحقيقة الجلية في السياق التاريخي للحضارة الغربية منذ العصور القديمة (العهدين اليوناني والروماني) ومروراً بالعصور الوسطى المتصلة بعصور النهضة الأوروبية وانتهاءً بالعصور الحديثة بما فيها الحقبة المعاصرة، تقول: إن (الفلسفة) هي التي جاءت ب(التنوير)، والتنوير هو الذي أنتج (الليبرالية). فبالنظر إلى التاريخ الغربي والأوروبي تحديداً نجد أن (الفلسفة) هي القاسم المشترك لأربع حركات نهضوية أسهمت في بلورة الحضارة الغربية التي تتسيد عالم اليوم، وتدخل في أدق تفاصيل حياة الإنسان المعاصر، وهي الحركة الثقافية (الإنسانية) في إيطاليا التي أعادت قراءة التراث الفلسفي الإغريقي في بدايات القرن الثالث عشر الميلادي، والحركة الفكرية (العلمية) في إيطاليا وبريطانيا التي أخذت المنهج التجريبي من المسلمين وطبقته خلال القرنين الثالث والرابع عشر الميلاديين، والحركة الإصلاحية (الدينية) في ألمانيا وسويسرا التي دقت المسمار الأول في نعش الهيمنة الكنسية على الحياة العامة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، والحركة التنويرية (العقلية) في فرنسا التي أفرزت الأفكار التحررية والنزعات المادية والفلسفات الإلحادية من ليبرالية وماركسية ووجودية وغيرها مطلع القرن السابع عشر الميلادي حتى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، بهذه الحركات يكون الإنسان الغربي قد حدّد دوره في الحياة، ومن ثم شكّل واقعه الحضاري بكل مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، عندما حسم موقفه من (الإنسان والعلم والدين والعقل).
غير أن اللافت في السياق التاريخي لتلك الحركات النهضوية، أن حركة (التنوير) قد استحوذت على البحث المعرفي والرصد التاريخي بشكل يفوق بقية الحركات الأخرى على الرغم من أهميتها في قيام النهضة، والسبب في رأيي أن (التنوير) شكل المحصلة النهائية والنتيجة الطبيعية للنهضة الأوروبية، ومن ثم بناء الحضارة الغربية، فبعد اكتشاف الإنسان في (الحركة الثقافية)، ومعرفة أهمية العلم في (الحركة العلمية)، وتقدير مكانة الدين في (الحركة الإصلاحية)، جاء دور سيادة العقل في (الحركة التنويرية)، والتنوير (Enlightenment) مصطلح أوروبي النشأة غربي المضمون، أطلقه الفيلسوف إيمانويل كانط (1724 - 1804م)، معبراً عن اتجاه فلسفي وثقافي ساد أوروبا وفرنسا بشكل خاص بتأثير من مجموعة فلاسفة ومفكرين أمثال (فولتير) و(ديدرو) و(هولباخ) الذين أخذوا عن الفلاسفة العقليين أمثال (ديكارت) و(سبينوزا) و(لوك)، وقد ُعرف ذلك العصر ب(عصر العقل)، لأنه شهد تعظيم دور العقل في صنع حياة الإنسان لدرجة التمجيد والتأليه، فقد مكّن الإنسان من إعادة اكتشاف الطبيعة بخلاف الفهم الديني أو الموروث الاجتماعي، خاصةً أن (التنوير) يعتبر كل الحقائق الصادرة من الأديان هي من خلق الخيال، أما العادات والتقاليد المتوارثة فهي شرور العالم، لذا كان العقل هو الوسيلة الوحيدة للوصول للمعرفة والحقيقة من خلال التجربة والملاحظة، مع إقصاء الدين واستبعاده تماماً من المعرفة، كون التجربة تستلزم إنكار كل الحقائق الفطرية والغيبية ومنها الحقائق الدينية.
إذاً التنوير مناخ اجتماعي عام تكون السيادة فيه للعقل على كل مناحي الحياة وشؤونها، بحيث يستخدم كل إنسان عقله دون توجيه إنسان آخر أو وصاية من طرف أو دين أو ثقافة، من خلال اتجاهين (الاستعمال العقلي العام) وهو أن يستخدم كل فرد عقله، و(الاستعمال العقلي الخاص) وهو أن يستخدم الفرد العالم أو المتخصص أو المثقف عقله فتتداخل الاستخدامات مشكلة ً هيمنة العقل البشري على الوحي الإلهي والواقع الاجتماعي بالنقد والرصد والتحليل والرفض ومن ثم الإبداع الفكري والإنتاج العلمي. هذا المناخ لا يكون تاماً ومقبولاً إلا باعتبارات رئيسة من أهمها أن العلم يكون محل الغيب، وأن التجربة والملاحظة هما مقياس الحكم على الأشياء، وأن معيار الأخلاق هما السعادة واللذة، وليس الفضيلة والاحتياج الروحي لأن الأخلاق مستمدة من الفطرة الإنسانية، ولأن الإنسان جزء من الطبيعة، فإن سعادته دنيوية مرتبطة بعاطفته وشهوته، ولهذا فالدين في (الفكر التنويري) هو دين طبيعي (أرضي) من صنع العقل وليس ديناً (سماوياً) يخضع لعالم الغيب، كما أن للتنوير فلسفته السياسية التي قامت على تطوير نظرية (العقد الاجتماعي) بين الحكام والمحكومين، فكان هذا التنوير هو الذي ألهم قادة ثورة الاستقلال الأمريكي عام 1776م ضد التاج البريطاني، كما أنه كان من أهم عوامل قيام الثورة الفرنسية عام 1789م.
بعد هذا كيف يمكن لنا أن نتعامل مع الآراء الداعية للتنوير؟ بل كيف يمكن لتلك الأقلام التي تتحدث عن (التنوير) أو تبشر ب(التنوير السعودي) أن تضع محدداته الحضارية وأبعاده الإنسانية في مجتمع ديني محافظ، بحيث لا ندخل في إشكالية تعارض (مرجعية العقل) كما في الفلسفة الغربية مقابل (مرجعية الدين) كما في التصور الإسلامي للحياة، خاصةً أن التنوير في المفهوم الإسلامي ينطلق أساساً من (الدين) من تعاليم القرآن والسنة، قال تعالى : {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 8 سورة التغابن)، على النقيض من تنوير الغرب الذي بدأ بمحاربة الكنيسة حتى انتهى إلى معاداة الدين، وإعلان القطيعة معه لدرجة إبعاده عن أن يكون أحد (مصادر المعرفة الإنسانية).
إن من يقرأ أدبيات وكتابات دعاة (التنوير) في المجتمع السعودي لا يجد وضوح الفكرة وجلاء العبارة وحدود الغاية، إنما استهلاك مكرر لمفردة (التنوير) يوحي بالاستعراض الثقافي، فهذا يتحدث عن (التنوير) في التعليم، وآخر يطالب به في السينما، وثالث يريده في الفكر السائد وغيرهم كثير ممن شرق وغرب بعيداً عن توضيح الكيفية التي يتم بها هذا التنوير المنشود، الذي لا تدري هل هو امتداد فكري حقيقي لتنوير أوروبا؟ أم هو استنساخ غبي لتجربة تاريخية لها ظروفها الخاصة؟ أم هو تنوير إسلامي يقوم على النظر بعقل المؤمن بمرجعية دينية عليا مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية ؟، بحيث يتم التوفيق بين (فقه الواقع) و(فقه النص). وهذا تنوير حميد ومقصد عظيم ولكن للأسف لا أجده في كتابات التنويريين السعوديين.
kanaan999@hotmail.com *