Al Jazirah NewsPaper Tuesday  28/04/2009 G Issue 13361
الثلاثاء 03 جمادى الأول 1430   العدد  13361
دور البيئة والمجتمع في تطور العقل
عبدالرحمن بن سعود الهواوي

 

لقد قيلت أقوال علمية عديدة ونظريات فلسفية مختلفة كلها تدور حول العقل الإنساني وماهيته، وما إذا كان بمقدور الإنسان أن يطور وينمي عقله دون تدخل من عوامل أخرى. وقد حاول الفيلسوف العربي أبوبكر محمد بن عبدالملك بن محمد بن أحمد بن طفيل القيسي المولود في السنوات العشر الأولى من القرن الثاني عشر الميلادي أي بين 495 إلى سنة 505 هجرية..

...والمتوفى في سنة 581هـ - 1185م في مدينة مراكش أن يتوقع في قصته الخيالية (حي بن يقظان) بأنه بمقدور الإنسان أن ينمي عقله بذاته دون تدخل من أناس آخرين. وملخص قصته أن حي بن يقظان إنسان ولد في جزيرة من جزائر الهند تحت خط الاستواء، أما كيف ولد؟ فهناك فرضان: فرض يجعله يولد من أبوين شأن أي إنسان آخر، وفرض يجعله يتولد من الطين، وتغذى - هذا الطفل - على ظبية فقدت ولدها والتي قامت بتربيته وبغذائه أحسن قيام.. ولم يكن بتلك الجزيرة شيء من السباع.. فتربى الطفل ونما حتى تم له عامان وتدرج في المشي، وظهرت أسنانه فكانت الظبية تحمله إلى مواضع فيها شجر فثمر فكانت تطعمه ما تساقط من ثمراتها الحلوة النضيجة، وإذا جن الليل صرفته إلى مكانه الأول.

وحاكى الطفل نغمة الظبية بصوته، وكذلك كان يحاكي جميع ما يسمعه من أصوات الطير وأنواع سائر الحيوان، فألفته الوحوش وألفها.. ورأى أن جميع الحيوان مكسو بالوبر أو الشعر أو الريش. ورأى منها ما هو سريع العدو وقوي البطش، ورأى ما لها من الأسلحة التي تدافع بها عن نفسها مثل القرون والأنياب والمخالب ففكر في ذلك كله، وطال همه وقد قارب سبعة أعوام وهناك اتخذ من أوراق الشجر العريضة شيئاً جعل بعضه خلفه وبعضه قدامه وعمل من الخوص والحلفاء شبه حزام على وسطه علق به تلك الأشجار.. وصادف نسراً ميتاً وقطع جناحيه وذنبه وفتح ريشها وسواهما وسلخ عنه سائر جلده، وفصله على قطعتين ربط إحداهما على ظهره، والأخرى على سرته وما تحتها وعلق الذنب خلفه، والجناحين على عضديه، فأكسبه ذلك شداً ودفئاً ومهابة في نفوس الوحوش.. أصاب الظبية الهزال ثم أدركها الموت.. فلما رآها الصبي على تلك الحالة جزع جزعا شديدا.. وحاول استطلاع سبب ما جرى لها فلم يهتد فظل يفتش في كل أعضائها إلى أن اهتدى إلى القلب.. فجرده فرآه مصمتاً من كل جهة.. فلم يعثر فيه على آفة فاعتقد أن الساكن في ذلك البيت قد ارتحل قبل انهدامه وتركه بحاله.. هنالك فكر: ما هو ذلك الراحل؟ وما ربطه بالجسد؟ وما السبب الذي أزعجه ان كان خرج كارها؟ نتن الجسد فزادت نفرته منه وود ألا يراه.. سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتاً.. فحفر الحي حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب. فصنع بأمه الظبية الميتة صنيع الغراب بزميله.. وبقي - الطفل - يتصفح أنواع الحيوان والنبات ويطوف بساحل تلك الجزيرة، فاتفق له أن كان يرى ناراً تنقدح في أجمة قصب أجوف.. فتعجب.. ومد يده إليها فأحرقت يده فأخذ منها قبساً، وحمله إلى جحر استحسنه للسكن واعتقد ان النار أفضل الأشياء.. وظن أن الشيء الذي ارتحل من قلب أمه الظبية لا بد أنه من جوهر النار أو من شيء يجانسه.. وأكد ذلك في نفسه ما كان يراه من حرارة الحي وبرودة الميت. فعمد إلى بعض الوحوش وشقه حتى وصل إلى القلب فشق جهته اليسرى فرأى ذلك الفراغ مملوءاً بهواء بخاري يشبه الضباب الأبيض، فأدخل أصبعه فيه فوجده من الحرارة في حر كاد يحرقه. ومات ذلك الحيوان على الفور فصح ان ذلك البخار هو الذي كان يحرك هذا الحيوان.. ثم بحث عن سائر أعضاء الحيوان ويكف تستمد من هذا البخار الحار حتى تستمر لها الحياة به. فقام بترشيح الحيوانات الأحياء والأموات.. فتبين له أن كل شخص من أشخاص الحيوان، وان كان كثيرا بأعضائه وتفنن حواسه وحركاته فإنه واحد بذلك الروح الذي مبدؤه من قرار واحد، وانقسامه في سائر الأعضاء منبعث منه، وان جميع الأعضاء إنما هي خادمة له وان منزلة ذلك الروح في تصريف الجسد كمنزلة من يحارب الأعداء بالسلاح التام.. فإن خرج هذا الروح من الجسد، أو فنى أو تحلل بوجه من الوجوه تعطل الجسد كله وصار إلى حالة الموت وفي خلال ذلك تفنن في وجوه الحيل..

وكان في الجزيرة خيل برية وحمر وحشية فاتخذ منها ما يصلح وأتم بذلك واحدا وعشرين عاماً. ثم أنه بعد ذلك أخذ في مأخذ آخر فتصفح عالم الكون والفساد من الحيوان على اختلاف أنواعه والنبات والمعادن وأصناف الحجارة والتراب والماء والبخار الخ، فاكتشف خواصها وأحوالها كل هذا دعاه إلى إدراك ان حقيقة وجود كل واحد منها مركبة من الجسمية ومعنى آخر زائد على الجسمية.. وهو أول ما لاح له من العالم الروحاني، إذ هي صور لا تدرك بالحس، وإنما تدرك بضرب من النظر العقلي ولاح له أن الروح الحيواني لابد له أيضا من معنى زائد على الجسمية، وذلك المعنى هو صورته، وعقله الذي انفصل به عن سائر الأجسام، وهو النفس الحيوانية ثم ادرك في النبات النفس النباتية، وفي الجماد المادة والصورة، ونظر في ارتباط الموجودات فعلم بالضرورة ان كل حادث لا بد له من محدث وتتبع الصور التي قد عاينها.. ولاح له مثل ذلك في جميع الصور فتبين له ان الأفعال الصادرة عنها ليست في الحقيقة لها، وإنما هي لفاعل يفعل بها الأفعال المنسوبة.. وانتقل فكره إلى الأجسام السماوية، وكان قد بلغ ثمانية وعشرين عاما. فعلم ان السماء وما فيها من الكواكب أجسام لأنها ذوات طول وعرض وعمق فظل يتصفحها ويتصفح حركاتها فوقف على أن الفلك بجملته وما يحتوي عليه كشيء واحد متصل بعضه ببعض، وان جميع الأجسام كالأرض والماء والهواء والنبات والحيوان كلها في ضمنه، وكأنه حيوان كبير.. فلما تبين له ان الكون كله كشخص واحد في الحقيقة وأنه محتاج إلى فاعل مختار.. وان ذلك الفاعل لا يمكن أن يدرك بالحواس.. وإذن فلابد للعالم من فاعل بريء عن المادة.. وانتهت به المعرفة إلى هذا الحد وهو في الخامسة والثلاثين، ورسخ في قلبه من أمر الفاعل ما شغله عن الفكر في كل شيء إلا فيه.. حتى صار بحيث لا يقع بصره على شيء إلا ويرى فيه أثر الصنعة، فينتقل بفكره على الفور إلى الصانع ويترك المصنوع حتى اشتد شوقه إليه وانزعج قلبه بالكلية عن العالم المحسوس وتعلق بالعالم المعقول.. ويقول بدوي: وبعد ان حلق ابن طفيل ببطله حي بن يقظان هذا التحليق، عاد به إلى العالم المحسوس، وهو في سن الخمسين، ليصحب (أبسال) ذلك أنه كان هناك جزيرة قريبة من تلك التي ولد بها حي.. انتقلت إليها ملة من الملل الصحيحة المأخوذة عن بعض الأنبياء. وكان قد نشأ بتلك الجزيرة فتيان من أهل الفضل. يسمى أحدهما أبسال والآخر سلامان.. وكانا مؤمنين بتلك الملة، إلا ان أبسال كان أشد غوصا على الباطن.. بينما كان سلامان أكثر تمسكاً بالظاهر وأبعد عن التأويل.. وكان ابسال قد سمع عن الجزيرة التي نشأ بها حي بن يقظان، فارتحل إليها وكان يطوف بتلك الجزيرة فلا يرى أحداً، إلى ان اتفق ذات مرة أن خرج حي بن يقظان لالتماس غذائه فوقع بصر كل واحد منهما على الآخر، فأما أبسال فلم يشك في أنه من العباد المنقطعين وصل إلى تلك الجزيرة لطلب العزلة عن الناس. وأما حي فلم يدر من هو، لأنه لم يره على صورة شيء من الحيوان الذي عرفه فوقف يتعجب من أبسال وولى أبسال هارباً منه خيفة ان يشغله عن عزلته.

فاقتفى حي بن يقظان أثره فشرع أبسال في الصلاة والقراءة.. اقترب منه حي فسمع قراءته وتسبيحه فسمع صوتاً حسناً وحروفا منظمة لم يعهد مثلها في شيء من أصناف الحيوان.. فر أبسال منه فلحق به حي وأظهر البشر والفرح ثم آنس كل منهما بالآخر فشرع أبسال في تعليمه الكلام بأن كان يشير به إلى أعيان الموجودات وينطق باسمائها حتى جعله يتكلم في أقرب مدة.. سأله أبسال عن شأنه فأعلمه حي أنه لا يدري لنفسه ابتداء ولا أبا ولا أما أكثر من الظبية التي ربته، ووصف له شأنه وكيف ترقى بالمعرفة حتى انتهى إلى درجة الوصول فلما سمع منه أبسال تلك الحقائق والذوات والمفارقة لعالم الحس ووصف ذات الله، لم يشك أبسال في أن جميع الأشياء التي وردت في شريعته من أمر الله عز وجل.. هي أمثلة هذه التي شاهدها حي بن يقظان، فانفتح بصره، وتطابق عنده المعقول والمنقول، فتحقق عنده أن حي بن يقظان من أولياء الله فالتزم خدمته.. واتفق ان ضلت سفينة ووصلت إلى هناك، فركباها وسارت بهما إلى جزيرة أبسال. وكان على رأسها حينئذ سلامان صاحب أبسال فشرع حي في تعليم أهلها، فجعلوا ينقبضون منه ويدبرون عنه. فيئس من اصلاحهم وانقطع رجاؤه من صلاحهم.. ثم تلطف هو وأبسال في العودة إلى جزيرتهما وطلب حي بن يقظان مقامه الكريم واقتدى به أبسال، وعبدالله بتلك الجزيرة حتى أتاهما اليقين.

يقول عبدالرحمن بدوي (1984م): والغاية التي استهدفها منها - من قصة حي بن يقظان - ابن طفيل هي بيان اتفاق العقل والنقل، أي اتفاق الدين والفلسفة وحي بن يقظان هو رمز العقل الإنساني المتحرر من كل سلطة ومن كل معرفة سابقة.. وأبسال رمز لرجل الدين المتعمق المتأول الغواص على المعاني الروحانية، وسلامان رمز لرجل الدين المتعمق بالظاهر، المتجنب للتأويل المتوقف عند الأعمال الظاهرة والمعاني القريبة.

أما الجمهور فلا يعي إلا الظاهر والحرفي ولا يدرك من معاني الدين شيئاً. ويضيف بدوي قائلاً: وواضح من هذا أن ابن طفيل يرتب الناس هذه المراتب الأربع: فأعلاها الفيلسوف، ويتلوها مرتبة عالم الدين البصير بالمعاني الروحانية، أي الصوفي، ويتلوها مرتبة رجل الدين المتعلق بالظاهر وهو الفقيه، وأدناها مرتبة الجمهور من الناس. ويقول الوردي (2008م): كتب ابن طفيل، الفيلسوف الأندلسي المعروف قصة فلسفية بعنوان (حي بن يقظان) وكان يقصد من كتابة هذه القصة أن يشرح للقارئ طبيعة العقل البشري كما يفهمها هو.. يقول ابن طفيل: إن عقل هذا الإنسان - حي بن يقظان - أخذ ينمو بنمو بدنه حتى تم نضوجه في تلك الجزيرة. واستطاع ان يفكر ويستنتج حتى توصل بتفكيره المجرد إلى كثير من الحقائق الكونية التي توصل إليها الفلاسفة العظام من قبل. يريد ابن طفيل بهذا ان يبين للقارئ ان العقل البشري جهاز فطري وانه ينمو من تلقاء نفسه، فلا حاجة به إلى التدريس والتلقين. ويبدو ان ابن طفيل يرى بأن العقل البشري حين ينمو بعيدا عن سخافات المجتمع وأباطيله يصبح أسلم تفكيراً وأصح استنتاجاً وهو بذلك يحبذ للمفكرين ان يبتعدوا في تأملاتهم عن الناس ويتسامون عن عنجهياتهم. إنه بعبارة أخرى يدعو المفكرين إلى الصعود إلى البرج العالي. ويقول الوردي أيضاً: والغريب ان كثيرا من كتابنا ومفكرينا لا يزالون حتى يومنا هذا متأثرين بهذه القصة.. انهم لا يزالون يؤمنون بأن العقل موهبة طبيعية نمو من تلقاء ذاتها سواء أعاش الإنسان في مجتمع أم عاش منذ ولادته وحيدا منعزلا.

أما الأبحاث العلمية الحديثة فهي تكاد تجمع على خطأ هذا الرأي حيث ثبت اليوم ان العقل البشري صنيعة من صنائع المجتمع، وهو لا ينمو أو ينضج إلا في زحمة الاتصال الاجتماعي فإذا ولد الإنسان وترعرع بين الحيوانات فإنه يسمى حيوانا مثلها. وما قصة (حي بن يقظان) التي ابتدعها فيلسوفنا الرائع إلا وهم أو خرافة لا وجود لها في عالمنا الذي نعيش فيه ويقول مرحبا 1982م: ليس التكوين الجسمي هو المسؤول عن الرقي الفكري، إنما المسؤول عن ذلك ما يرافق هذا التكوين من إعداد وتربية، وما يتجمع له من تجارب وخبرات وما يشغله من مبادئ ومثل وغايات، وما يراوده من آمال وأحلام، وتطلعات وما يتخذه من مواقف وما يتحلى به من قدرات ومواهب تمكنه من فهم العالم والسيطرة عليه وقهره وتغييره.. إن العقل الإنساني واحد لدى جميع الأجناس والأقوام والشعوب فالكل يشتركون فيه على حد سواء. إن التفكير والذكاء هما عنوان تفوق الإنسان على الطبيعة الجامدة، وهما مبرر وجوده. إن التفوق العقلي الذي يتمتع به بعض الأفراد ثروة لا تقدر - الفرصة بيئة وحضارة حتى أن الإخوة الأشقاء، بل التوائم الذين هم نسخ متماثلة في الاستعدادات الوراثية الواحدة قد يختلفون إذا اختلفت البيئات التي يعيشون فيها. ويقول العيسوي (1980م): الذكاء هو تلك السمة الإنسانية التي يعزى إليها ما أحرزته البشرية من انتصارات ومنجزات علمية وفنية وفكرية وفلسفية، إذا ارتفع نصيب الإنسان منه وصل إلى حد العباقرة والعظماء وصناع التاريخ، وإذا انخفض نصيبه منه انحط مستوى سلوكه ليقترب من مستوى السلوك الحيواني.

نقول: على ضوء ما تقدم نتبين أن قدرات الإنسان الفكرية والعقلية ليست كافية وحدها حتى تعطيه سمة التفوق العقلي والفكري وإنما يلزم مع ذلك البيئة المناسبة والاختلاط بالمجتمع والاشتراك بالمناقشات الفكرية المتنوعة وبالقراءات المتعددة، وعدم نظرته لنفسه بالتفوق على الآخرين.. و.. و..

المراجع

1- د. عبدالرحمن بدوي (1984م) موسوعة الفلسفة

2- د. علي الوردي (2008م) مهزلة العقل البشري

3- عبدالرحمن مرحبا (1982م) أصالة الفكر العربي

4- عبدالرحمن العيسوي (1980م) مشكلة الذكاء بين الوراثة والبيئة




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد