وقال نافع: خرجت مع ابن عمر، أي عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.. خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له، فوضعوا سفرة لهم، فمر بهم راعي غنم وهو عبد أسود صغير السن، فقال له عبدالله: هلم يا راعي فأصب من هذه السفرة، فقال: أنا صائم، فقال عبدالله: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب والجبال في آثار هذه الغنم ترعى وأنت صائم!
فقال الراعي: نعم، أغتنم الأيام الفائتة للأيام الباقية.. عجب ابن عمر وقال: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نذبحها ونطعمك من لحمها ما تفطر عليه ونعطيك ثمنها؟ فقال: إنها ليست لي، إنها لمولاي.. فقال له: إذا سألك مولاك عنها فقل له: أكلها الذئب -يختبر أمانته-.. فمضى الراعي وهو يقول رافعاً اصبعه إلى السماء: فأين الله! فلم يزل ابن عمر يقول: فاين الله! ورجع ابن عمر إلى المدينة فبعث إلى سيده، فاشترى الراعي والغنم، وأعتق الراعي ووهب له الغنم.. إن هذا النص من كتاب: أخبار عمر وأخبار عبدالله بن عمر للشيخ علي الطنطاوي وأخيه ناجي الطنطاوي.
إنني وأنا أقرأ هذه الحكاية لأول مرة اهتززت كثيراً وأعجبت بأمانة ذلك الغلام المملوك أيما إعجاب، فالمسلم الحق حينما يقرأ أو يسمع مثل هذا الكلام في كتب الأولين، يصيبه ما أصاب عبدالله بن عمر، وهو من هو في مكانته العالية وإيمانه الذي يضرب به المثل؟ وكذلك سلوكه وخلقه وأدب نفسه.. وسألت نفسي: وأين نحن المسلمين اليوم في أماناتنا والحفاظ عليها وأدائها؟ وإذا قرأ أو سمع أخلاط من الأمة المسلمة هذا الحديث، ماذا يؤثر فيهم صدى هذه الحال، لاسيما المنغمسون في الدنيا إلى حد الغرق؟ أنا لا أدعو إلى اعتزال الحياة والإقباع على النفس والبعد عن الحراك! هذا توجه يعطل مسيرة الحياة، وهذا ليس من الإسلام في شيء.. إلا أني أريد الالتزام بالقيم والحق والصدق تعاملاً وسلوكاً -أما الغش واغتيال حقوق الآخرين وأكل أموال الناس بالباطل، والتقصير في أداء الواجب، وضياع الأمانة والظلم، وأمور كثيرة من هذا القبيل يدخل في سياق الأمانة، وما أثقلها من تبعة على الذين يفرطون فيها، وهي أي الأمانة ليست ثقيلة إلا على الذين لا يأبهون لها، لأنها ليست في حسبانهم، لأنهم غافلون!.
أمتنا الإسلامية اليوم في غفلة سادرة على أنفسها، كأنها أمنت الحساب والعقاب، لكن ليس من شأنها نسيان ما كلفت به، ولكن الانغماس في الحياة إلى الأذقان، فهي قد نسيت نفسها، ورسولنا صلى الله عليه وسلم حذر من هذا الانشغال بلا حدود، في هذه الدنيا الخضرة النضرة، حتى إن الموقنين يدعون: اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا.. وتأخرت الأمة المسلمة التي كانت تملك الدنيا وتحكمها، تأخرت لأنها جهلت، ولأنها فرطت، واشتغلت بالسفاسف، ونسيت أنها تحملت تبعات أمانة ثقيلة تكاليفها، أبت السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جهولاً!
إن حكاية ذلك الشاب المملوك راعي الغنم مع ابن عمر تذكرة لمن ألقى السمع وهو شهيد، إن ذلك الموقف في قيمة الأمانة والحفاظ عليها، ليجعل ذا الحس المرهف الموقن بالحق، وهو اسم الله عز وجل، أن يؤديها ويرعاها أخذاً وعطاء، وليته يسلم إذا فعل! لكن لا بد من خوف الله، وديننا يمكن فهمه في التوجيه النبوي، رداً على سائل، في ألفاظ موجزة جامعة: قل آمنت بالله ثم استقم.. وكلمة -آمنت بالله-، ليست كلمة ينطق بها وكفى، وإنما هي تطبيق والتزام كامل، ومحافظة على هذا الالتزام بأن يكون يقيناً لا محيد عنه، وذلك استيعاباً بالعقل، وتصديقاً بالقلب.. مقتضى كلمة -استقم-، فإنها ممتدة كما يمتد -الألف- بلا حدود.. ولعل الخوف هو السبيل إلى الالتزام بالاستقامة إذا صاحبه الإدراك، ليكون عملاً دون توقف ولا تردد!