Al Jazirah NewsPaper Monday  27/04/2009 G Issue 13360
الأثنين 02 جمادى الأول 1430   العدد  13360
الإنترنت وسيطرة الرعاع
د. عبدالرحمن الحبيب

 

إذا كنت مزارعاً مديوناً، جرِّب أن تسجل قطعة موسيقية مصوَّرة تصدح بثغاء بقرتك البائسة مع بعض الخدع التي تقنع المشاهد بأنّ البقرة لها ذائقة موسيقية وأنها تشعر بمأساتك، ثم ضعها في يوتيوب .. خلال أيام سيأتي آخرون يقلّدونك، ولكن سيبتكرون بدل البقرة خرافاً أو دجاجاً ..

.. قد تنجح باعتبارك مكتشفاً قدرة البقر على الغناء، وتحظى بالشهرة والثروة، فهذه هي الديمقراطية الإنترنتية..

الفكرة الإنترنتية جعلت من المستهلِك منتجاً، ومن الزبون بائعاً في ذات الوقت .. فكل فرد من مئات الملايين المستخدمين للإنترنت يمكنه نشر خصوصياته أو مشاعره أو قصصه لتتحوّل إلى سلعة تتسابق عليها الإعلانات إذا نالت شعبية، بغض النظر عن أصالة الابتكار .. المهم هو إرضاء المستخدمين. فالمفكِّرون المروِّجون للثقافة التجارية الإنترنتية يعشقون مقولة مارشال مكلوهان: (المستخدم هو المحتوى)، التي أصبحت المبدأ الأساسي لثقافة الإنترنت، بمعنى أنّ الزبون ينتج بضاعته.

لنفهم مقولة المستخدم هو المحتوى، نعود لمصطلح (الزبنتج) (prosumer) دمج كلمتي الزبون المنتج، قبل نحو ثلاثين عاماً، والذي أطلقه المفكر المستقبلي ألفن توفلر أحد أعضاء مجموعة تجارية أمريكية ويعرفون بالمستقبليين. فخلال الحرب الباردة، بدأت نشأة الإنترنت في قسم مشاريع البحث المتقدم في وكالة ناسا في نهاية الخمسينات، أثناء سباق التسلُّح المحموم مع الاتحاد السوفييتي. وحيث إنّ التجارة هي أيضاً معنيّة بالرؤية المستقبلية، تحوَّل المستقبليون من الاهتمامات العسكرية إلى الاقتصاد وانغمسوا في التجارة، مروجين في كتبهم عن مستقبل مثالي للاقتصاد الرأسمالي. ومن ذلك كتاب (التوجُّهات العظمى) لجون نيسيبه، (الازدهار القادم) لهيرمان كاهن، والأكثر إثارة كتاب (صدمة المستقبل) لتوفلر..

لم يكتف هؤلاء المستقبليون بالتكهُّن بالمستقبل، بل اعتبروه حتمية تاريخية للحضارة المتفوّقة، مماثلاً لفكرة الحتمية الماركسية في روسيا. وكان يجمعهم فكرتان رئيسيتان. الأولى هو توقُّع المستقبل من ناحية التوجُّهات الضخمة التي ستكتسح مئات الملايين من البشر. والأخرى جعل هذه التوجُّهات تخدم المصالح التجارية. وليس ذلك فقط، بل بدأوا في تعريف حياة الإنسان كملازم للمعنى التجاري، مما يرتبط معه إعادة القيم الإنسانية وفقاً للمفهوم التجاري ..

ولم يمض وقت طويل حتى اكتشف الإنترنت أفكار توفلر ومصطلحه (الزبنتج)، حين صار الزبون المستخدم للشبكة العنكبوتية منتجاً لبضاعته. وظهرت كتب في التسعينات تمجد هذه الفكرة، مستخدمة مصطلح الزبنتج باسم الديمقراطية والحرية التجارية .. باسم حرية الاختيار وحق الوصول للمعلومات، باسم التفرُّد والتميُّز..

التفرُّد هو الذي يروِّجه مناصرو ثقافة الإنترنت التجارية، مدَّعين أنها تمنح الأفراد خلق خياراتهم المُبدعة، لكن ما يخلقونه بالفعل هو إمكانية أكبر للتجانس والتشابه وليس التفرُّد. تشرز أندرسون مؤلف (The Long Tail) الذي يُعد أهم كتاب في تجارة الإنترنت، وأكثرها تطبيقاً لنظريات توفلر يبشر بالتفرُّد وأنّ للجميع مكاناً حول الطاولة. ولكن أي نوع من الطاولات تلك؟

إذا أنت أنتجت لقطات خاصة من كامرتك الرقمية لعرضها للعائلة والأصدقاء، فإنّك لست منتجاً بائعاً، بل تتسلّى. أما إذا عرضتها في الإنترنت وربما تأمل أن تُلاحظ، متوقعاً أنّ لقطاتك سيتم (استهلاكها) من الغرباء الذين سيُرضون مصالحك، فأنت فعلاً منتج، لأنك تصنع من لحظاتك الخاصة بضاعة محتملة وفقاً لطلب الزبون، ليس وفقاً لرؤيتك.

تمتلئ الشبكة العنكبوتية بكل أنواع النشاطات التي ينتجها المستخدمون (الزبائن) لتكون قابلة للاستثمار التجاري. ذلك جعل الحيّز الشخصي الخاص والحميم جزءاً من السوق. لقطات لا تعد من المآسي البشعة المحزنة يتم عرضها يومياً حول العالم للتسلية والاستهلاك التجاري. وكلما كان المنظر أو النص مروعاً وصاعقاً ومقززاً، اعتبر الأداء مبدعاً وعبقرياّ .. فلا عجب أنّ الكثير من الخزعبلات والخدع الساذجة تُعرض في: يوتيوب، مايفيس، فيسبوك، المدونات .. فليس هناك معايير لهذه الأعمال سوى أن تنال الشعبية. فإذا كنت تبحث عن الشهرة والثروة فجاهد كي تكون شعبياً بأي طريقة، فليس ثمة معايير!

كتاب (ثقافة الجماهير، الفن الشعبي في أمريكا) نشره برنارد روزنبرج وماننج وايت عام 1957 وضم مجموعة من المفكرين، وكان من أهم الكتب آنذاك .. روزنبرج تخوَّف من توسُّع الثقافة الشعبية ليس لأنها تهدد الذائقة الفنية فحسب، بل لأنها تمهد الطريق للاستبداد عبر توحيدها الأذواق ووضعها لمعايير شعبية تفرض التبسيط والفهم المباشر للأعمال الثقافية. بينما وايت على نقيضه، يرى أنّ الثقافة الشعبية حينها كانت غنية ومتنوعة، وأنها أنتجت أعمالاً جادة ونقلتها للجماهير ..

وبعد مضي نصف قرن لا يزال الخلاف بين وجهتي نظر روزنبرج ووايت كما هو. ما كان يختلفان فيه هو حول تجاذب الأصالة في الابتكار بين كفَّة إرضاء الجمهور وكفَّة إثرائه. لقد كان للثقافة الشعبية سلبيتها في مجاملتها أو إرضائها للذائقة العامة وإضعاف الإبداع والتنوع، وأيضاً كان لها إيجابيتها في ضم المبدعين المثقفين لمزيد من القبول الشعبي وإثراء الثقافة الشعبية.

أيضاً للإنترنت إيجابيات وسلبيات على الثقافة والفن .. إنما فترة ما قبل الإنترنت أعطت دفعة للنقد المتفحص الذي نشَّط الجوانب الإيجابية في تطوير الثقافة الشعبية. قبل الإنترنت كانت مؤسسات عامة وخاصة وشركات وناشرون ودوريات علمية وثقافية، تُنتج كتباً وتلفزة وإذاعة وسينما وصحافة ومجلات من أجل ثقافة للجماهير ولم تكن ثقافة من الجماهير. ثقافة للجماهير ليست مثل ثقافة من الجماهير.

الثقافة الشعبية التي يُحكى عنها في السابق ليست ثقافة جماهير .. ما يحدث في الإنترنت الآن هي ثقافة الجماهير .. فلأول مرة في التاريخ، نحن جميعاً أصبحنا منتجين وفي نفس الوقت مستهلكين .. هذه هي ثقافة الجماهير.

يقول لك تُجار الإنترنت إنّ الشبكة العنكبوتية مكان عظيم للتنوع والابتكار والفرادة والتعبير الذاتي. لكن منح كل فرد متواضع المواهب فرصة إغراء الجماهير بما يرضي ملذاتها دون معايير فنية، يجعل من إنتاجه مقلداً كل إنتاج آخر، إنه تقليد وليس إبداعاً، غوغائية وليس فنَّا .. وهنا تغرق أعمال الأفراد الأكثر إبداعاً وثقافة في بحر البسطاء العوام .. لكن رجال الأعمال لا تعنيهم هذه المسألة..

الآن كل تجربة أياً كانت، أصبحت متاحة كشكل ثقافي إبداعي، مما يعني أن ليس هناك معايير نقدية لتلك الأصداء المتفككة المتفسخة يحكم بينها سوى شعبيتها. وما يحدد الشعبية هو النجاح الاعتيادي الرتيب في الاندماج مع الجماهير، والتوسع في الأكثر إغراء وجاذبية للعموم. يجب أن تظهر مثل كل الآخرين أكثر من أي آخر يحاول أن يظهر مثل كل الآخرين. أما التفرُّد فهو في المبالغة، الاستشراء، التضخيم. الأعلى صوتاً، الأكثر صراخاً، الأكثر فضائحية وفحشاً، تلتف إليه الجماهير وينفذ بين الحشود المكتظة ..

أحد أصدقائي سمَّى ذلك (ميجا - ديمقراطية) بمعنى أنّ الديمقراطية على حافة هاوية منحرفة عن مبادئها إلى نقيضها. أنا سمّيتها الانعطافة المميتة للديمقراطية. هذا ما قاله لي سيجل الذي عبَّرت كل المقالة عن أفكاره في كتابه (ضد الآلة) .. وسنواصل الرحلة معه في المقالة القادمة..



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد