أجد أن الواجب الوطني هنا يحتم علينا التريث والوقوف طويلاً على تفاصيل حالة التوتر المشحون بالغضب التي رافقت أمسية الشاعرة حليمة مظفر بالجوف والتي كان رجال الأمن يشاركون الحضور في القاعة، فالصور التي رافقت التغطية الصحفية تنقل لنا مشاهد فتية في مطالع الصبا بالكاد اخضوضرت شواربهم واخشوشنت حناجرهم، بعدما كانوا العام الماضي أو الذي قبله يدورون في فلك أمهاتهم وبين حنان ورأفة منازلهم الوادعة، نجدهم اليوم يخرجون إلى الحياة بكم وافر من السخط والغضب والنفور والعدوانية. حاصرتني مشاعر ألم وحسرة، لأن هؤلاء هم روح الغد ورحيق المستقبل، ندهش عندما نجدهم ينخرطون في جيشان صحراوي لم يطاله التهذيب أو التمدن أو الوعي والحكمة التي تقلب الأمور على جميع احتمالاتها.
حالة الألم التي تقمصتني أحالتني إلى مجموعة من الحقائق، التي لابد أن نواجهها ونعترف بها، كمدخل أولي للحل، وأول حقيقة ينقلها لنا الواقع أنه كان هناك تقصير...
- تقصير بإحلال مفهوم الدولة بكل شروطها وانتماءاتها وولاءاتها بدلاً من العلاقات الصحراوية التي ما زالت تضرب بأطنابها وجذورها عميقاً.
- كان هناك تقصير على مستوى تنمية الموارد البشرية، لا سيما أن مخرجات المؤسسات التعليمية طوال الأعوام الماضية، كانت محبطة وغير مستجيبة لروح العصر.
- كان هناك تقصير فيما يتعلق بالتنمية الاجتماعية خصوصاً ما يتصل بتصحيح العادات والمفاهيم غير السليمة، والتعاون مع المواطنين أنفسهم في وضع الحلول العملية لمشكلاتهم، من خلال إشراكهم في البرامج التنموية التي تقوم على التفاعل بين جهود الحكومة وجهود أفراد المجتمع ومؤسساته.
- كان هناك تقصير أناني من القطاع الخاص في المساهمة بشكل جدي وفاعل في دعم المؤسسات التي تعنى بالتنمية المستدامة.
وجميعنا نعرف أن عملية التنمية هي عملية مركبة وشاملة ومتعددة الأبعاد تتعدى سياق النمو الاقتصادي إلى الاجتماعي والثقافي، عبر مشاركة فعالة من المجتمع لا سيما تلك القطاعات والفئات الاجتماعية التي حرمت من فرص النمو.
- كان هناك تقصير في التنمية الثقافية لا سيما إذا عرفنا أن مفهوم التنمية الثقافية مفهوم حديث بالنسبة لأدبيات التنمية في العالم العربي، وذلك لأن الدارج في مصطلحات التنمية كل من التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
لكن أهمية البعد الثقافي للتنمية قد جعلت المفكر الفرنسي (لويس دوللو) يعتبر الإعلان عن حق الإنسان بالثقافة - كأحد بنود حقوق الإنسان الدولية - أحد الثورات الثقافية الهامة في القرن العشرين، فهو يرى (أن الإعلان عن الحق في الثقافة يمثل (الثورة الثقافية) الثانية في القرن العشرين، فتجريد الإنسان من حقه في الثقافة - بصرف النظر عن الحقوق السياسية والاقتصادية الأخرى يساوي تجريده من بشريته وآدميته، فهو الكائن الوحيد المثقف، بمعنى القادر على الخلق عن طريق التفكير).
وتتعاظم أهمية البعد الثقافي في التنمية في ظل ظروف التخلف التاريخي، فالثقافة في مثل هذه الظروف هي الوسيلة الوحيدة المتوفرة لدى الإنسان للتأكيد على آدميته واكتمال إنسانيته.
ومن هنا بالتحديد لابد أن نعترف أن هناك كان تقصير أو غفلة.... أو لا أدري ما أسميه، وما نكابد اليوم هو أحد مخرجاته...... ومشهد فتية في ريعان الشباب معبئين بالغضب والنقمة ورفض الاندغام في المشروع الوطني الكبير.