ثم أبان الباحث أهم شروط وضوابط الانفتاح الاجتماعي في المملكة العربية السعودية وضرورة الموازنة بين الثوابت والمتغيرات، وذكر أن منها:
1- الانفتاح لابد أن يكون بعد العلم:
فما كل شيء يُقْبَل، ولا كل شيء يُرْفَض، فكل قضية اجتماعية .
تُثار لابد لأهل الاختصاص من أخذ حكمهم ورأيهم فيها خاصة علماء الشرع ثم علماء الاجتماع؛ حتى لا نُصَدِّر لأنفسنا مشكلات اجتماعية تعاني منها مجتمعات تبنت هذه المسائل والقضايا، فنعاني مثل ما عانوا فنصرف وقتاً وجهداً بل نستنزف مجتمعنا جراء تسرعنا في تبني قضايا خاسرة مفسدة لمجتمعنا.
2- أن يكون الانفتاح بعد العلم الشرعي:
فإن العلم بالشريعة الإسلامية ضرورة لمعرفة دين الإسلام وتطبيقه والعمل به، وهو أيضاً ضرورة للانفتاح على الثقافات والآداب للغير، فالانفتاح المفيد يكون بعد تصور عقيدة الإسلام وأحكامه تصوراً صحيحاً والثقة بها، ورد كل ما يخالفها من عقيدة أو عمل. أما الانفتاح قبل العلم الشرعي فإنه مزلق خطير يجعل صاحبه يتخبط في الأفكار والمناهج والفلسفات، ويقع فيما يخالف ويناقض أصول دينه، ومن أقل آثاره الشك في صحة دينه والشعور بالنقص نحوه، وهذا أحد أسباب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه والإنكار عليه عندما رأى في يده صحائف من التوراة فقال له: (أمتهوك فيها يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) رواه أحمد بسند صحيح.
3- أن يكون الانفتاح مع الالتزام بالإسلام:
فالإسلام دين شامل لكل جوانب الحياة الإنسانية، الروحية والمادية والفردية والجماعية، العلمية والعملية، وهو دين ثابت في قواعده وعقائده، فالانفتاح والتطوير والتجديد والعقل والإبداع ونحو ذلك، لا يمكن أن تصادم هذا الدين إذا كانت صحيحة وحقاً، أما إذا كانت باطلاً فمن الطبيعي أن يعارض الباطل الحق، والخطأ الصواب. وكل ما سبقت الإشارة إليه يعود إلى (العقل)، وقد قرر العلماء استحالة ورود العقل الصريح مناقضاً للنقل الصحيح، فإما أن تكون دلالة العقل غير صحيحة فهي غير مقبولة أصلاً، وإما أن يكون النص غير صريح في دلالته وحينئذ فالدين موافق للعقل لأن الجميع من عند الله تعالى. كما أنه يمكن للإنسان الانفتاح والاطلاع والثقافة والإبداع في إطار الالتزام بالشريعة الإسلامية عقيدة وعملاً ومنهجاً، وافتراض التعارض هو جهل بالشريعة نفسها أو جهل بحقيقة التطور والانفتاح والإبداع.
4- الانفتاح باعتزاز دون انبهار:
الانبهار بثقافة غير المسلمين وآدابهم وأفكارهم ومناهجهم دليل على عدم العلم بالإسلام والاعتزاز به والثقة المطلقة بصدقه ودلالته على الفلاح والهداية في الدنيا والآخرة، وهو من جهة أخرى يدل على ضعف شخصية المنبهر، وهزيمة نفسه، وقصور فكره، ومن كانت هذه حاله فلن يتجاوز التقليد المجرد. أما التجديد والتطوير والإبداع والابتكار فلا يمكن أن يُحَصِّلُها المنبهر حتى يفوق من سُكْرِ انبهاره بالغير، ويقوم بنقده نقداً واعياً ليأخذ ما يفيده ويرد ما عداه. ومن الانفتاح المحذور الانفتاح المبهور بثقافة الآخر، حين ينظر إليها مضخماً من شأنها، معظماً من فكرها، شاعراً بالدونية تجاهها لسبب أو لآخر، فكل ما قاله هذا الآخر فهو صدق، وكل ما رآه فهو صواب، وكل ما فعله فهو جميل. ويمكن للمسلم أن يطلع على ثقافات الأمم الأخرى بعد العلم، ومع الالتزام ودون انبهار ليعرف نعمة الله تعالى عليه، أو للاطلاع على الصناعات والمخترعات المفيدة في قوة المسلمين أو غيرها من المصالح المشروعة. وأي أمة جادة تريد تطوير نفسها لا يمكن أن تسمح بالانبهار بالآخر بين أبنائها. واستدل الباحث على ذلك بقوله: لما ذهب جيل من اليابانيين إلى الغرب رجع وهو يلبس الجينز ويقلد الغرب في كل شيء؛ فذبحهم حاكم اليابان وأرسل جيلاً آخر لم يتأثر بشيء من العادات أو الأفكار بل تعلم التقنية والتكنولوجيا وطورها فأصبحت اليابان من الدول الصناعية المنافسة.
ثم تطرق الباحث بعد أن أبان شروط الانفتاح إلى خطورة الانفتاح الاجتماعي غير المنضبط، وذكر عدة آثار سلبية له منها:
1- ضياع الهوية الإسلامية، فقد أجرت الكاتبة الأمريكية (إيفون حداد) دراسة إحصائية عن الأجيال المسلمة المقيمة في أمريكا ومدى قبولها أو رفضها لفكرة العلاقة بين الرجل والمرأة قبل الزواج، فوجدت أن الجيل الأول من المهاجرين يرفض بشدة هذه العلاقة، أما الجيل الثاني من المسلمين الذين وُلدوا في أمريكا فقد ظهر أنه أقل رفضاً للفكرة بدرجة كبيرة، أما الجيل الثالث من المسلمين فقد رأى 13% منهم فقط أن هذه الفكرة غير شرعية، ثم استنجت الباحثة أن ثلاثة أجيال تكفي لذوبان المسلم في البيئة الغربية.
2- انتشار كثير من الأمراض الاجتماعية التي إن تُرِكَ علاجها فتكت بنسيج المجتمع، فالانفتاح على المجتمعات غير المسلمة، ونتيجة لضعف المتلقي أوقعا عدداً محدوداً من شبابنا في أتون الشهوات المحرمة، والخطورة تكمن في الشبهات التي قد تجد آذاناً صاغية فتبعد الفرد عن دينه وقضايا أمته.
3- إحساس المسلم بالدونية والنقص: نتيجة لضعف رصيد المتلقي من هوية أمته وعدم تشربه لثقافة وقيم مجتمعه فيعقد مقارنة مادية بين عالمين مختلفين عالم متأخر مادياً وتقنياً في نظره وهو العالم الإسلامي وعالم متقدم مادياً وتقنياً وهو العالم الغربي، ونتيجة لهذه النظرة القاصرة والسطحية مع الضحالة المعرفية للفرد يتجه قلبه وعقله ويتطلع لهذا العالم مع استشعاره للنقص والدونية تجاه مجتمعه فيتجه إلى تبني القيم الاجتماعية ظناً منه بأن هذه القيم ستحقق له ولمجتمعه الرقي الحضاري.
ثم ذكر الباحث في دراسته سبُل مواجهة الانفتاح الاجتماعي غير المنضبط فذكر أن منها:
1- نشر الوعي بين المسلمين بخطورة هذا الانفتاح وما سيؤدي إليه من آثار سلبية نجد بعض أصدائها في المجتمعات التي تبنت قيماً اجتماعية لا تتفق ودين الأمة وعادتها.
2- استشعار روح العزة وتنمية روح الاستعلاء بهذا الدين، فديننا هو مصدر العزة والكرامة للمتمسكين به، قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُون}، (المنافقون 8)، وهذا ما استشعره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمن ابتغى العزة بغيره أذله الله).
3- الحفاظ على الهوية الإسلامية لأن قضيتنا في المقام الأول الانتماء للعقيدة، والعقيدة الإسلامية التوحيدية هي أهم الثوابت في هوية المسلم وشخصيته.
4- تفعيل دور الأسرة في تحصين البيت من سلبيات الانفتاح المختلفة، لأن هذا الانفتاح الخطير جعل كثيراً من الأمور السلبية تتسرب إلى بيوتنا ونحن عنها غافلون، وقد انحصر دور بعض الآباء في الآونة الأخيرة في مجرد جلب المال للأسرة، وترك جميع مقدرات الأسرة تدار بعيداً عنه، فالواجب على الزوجين تحصين أولادهم والصبر على تربيتهم وربطهم بدينهم وأمتهم وتكثيف الجهود في التربية الأسرية قال تعالى{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}، (طه 132).
5- توضيح وبيان موقف الإسلام من القضايا الاجتماعية التي تثار في المؤتمرات واللقاءات الخاصة فيما يتعلق بقضايا الأسرة والمرأة؛ وذلك بانتقاد بعض الأوضاع والعادات الخاطئة والمخالفة للشرع في المجتمع كالمغالاة في المهر، واعتباره ميداناً للكسب المادي والعضل وتأخير تزويج البنت طمعاً في الاستفادة من راتبها حين تكون عاملة.
6- بناء الشخصية المتكاملة؛ وهذا يتطلب رسم منهاج متكامل له خصائص متميزة، منها ما يلي:
أ?- سلامة العقيدة وصحة التصور.
ب?- طلب العلم وأوله العلم الشرعي، ثم تأتي بعده العلوم الأخرى التي تثري حياة المسلم العلمية والعملية، فالشاب والفتاة اللذان ليس لهما رصيد كاف من العلم الصحيح وليسا على قدر من الالتزام الأخلاقي هما أول ضحايا هذا العصر.
ج- غرس الآداب الإسلامية في النفس وتهذيب الأخلاق.
وفي نهاية الدراسة وضع الباحث تصوره لمستقبل المجتمع السعودي في ظل الثوابت والمتغيرات فقال: تقوم الحياة الاجتماعية عند الإنسان على أساس التفاعل الاجتماعي بين عدة أفراد، ذلك التفاعل الذي يؤدي إلى ظهور الثقافة الإنسانية في مختلف جوانبها سواء المادية كالمباني أو الملابس، أو الثقافة غير المادية كاللغة والرموز المشتركة والمعاني المتفق عليها، والقيم التي سعى الأفراد لتحقيقها والمعايير التي تحكم نماذج السلوك الفردي داخل الجماعة أو المجتمع. وتتوقف قدرة المجتمع على مواجهة التحديات والوقوف أمام مصاعب الوجود وإثبات ذاته والتأثير في الآخرين على مدى حيوية ذلك المجتمع، والقيم والمعايير التي تحكمه وتنظم العلاقة بين أفراده حكاماً أو محكومين. كما تكمن في قدرة المجتمع بمؤسساته وأفراده على التفاعل مع مستجدات الأحداث والتنبؤ بها وتسخيرها لمصلحته وقدرته على الاستفادة من تجارب الآخرين. وبالنسبة للمجتمع السعودي فعنده من مقومات المستقبل المشرق الكثير، واستدل بعدة دلائل منها:
1- استطاعته أن يتواكب مع حركة التنمية التي يمر بها في مجالات التنمية المختلفة، إذ الملاحظ أن حركة التطور التنموي قد شملت مجموعة كبيرة من نواحي الحياة المعاصرة، فشهد نهضة كبيرة على مستوى الأصعدة التعليمية والاجتماعية والاقتصادية والتقنية من غير أن يفقد هويته الإسلامية والعربية، إذ تشير الإحصائيات إلى تمسك الشباب السعودي بالدين باعتبار القيمة الحياتية الأولى له.
2- المجتمع السعودي يتميز بأنه مجتمع شاب، إذ تشكل نسبة 45% من السعوديين ممن هم دون سن الخامسة عشر، وإن كانوا يمثلون عبئاً في الوقت الحاضر على خطط التنمية باعتبارهم قوة غير فاعلة وغير منتجة إلا أنهم مستقبل هذا الوطن وأمله فيهم كبير، هذا فضلاً عن دخول قطاعات كبيرة من النساء إلى مسيرات العمل الذي يناسب النساء من تدريس وتمريض وتطبيب مما يشير إلى قدرة المجتمع على الاستفادة بكل طاقة كامنة فيه.
3- المجتمع السعودي مستقبله واعد في المجال التعليمي، فهذه الأعداد الكبيرة من الخريجين والخريجات في مراحل التعليم المختلفة مع توفر التجهيزات الأزمة والضرورية للعملية التعليمية، واهتمام القيادة السياسية بعملية التعليم باعتبارها حجر الزاوية في أي نهضة حضارية، كل ذلك يبشر بمستقبل زاهر من تخريج كوادر علمية في مجالات مختلفة من العلوم التجريبية والتخصصية، وقد مَكَّنَ للمملكة في هذا المجال نهجها سياسة الابتعاث إلى الخارج للتخصصات النادرة حتى يواكب الدارسون نظريات العلوم الحديثة والمتطورة ولا يكونوا بمعزل عنها.
4- المستقبل الاقتصادي يحمل تفاؤلاً كبيراً للمجتمع السعودي، إذ إنه يحتفظ بأكبر احتياطي في العالم، وقد استطاع خلال الخطط السابقة من أن يشهد الكثير والكثير من مرافق البنية التحتية من طرق وجسور وموانئ ومطارات خلال فترة قصيرة، وهذه البنى تستطيع أن تقبل أي معدل من النمو والتطور الاقتصادي، وإذا كان معدل النمو الاقتصادي كبيراً فإنه أيضاً يتميز بالنمو الشامل في مختلف الجوانب فلا يطغى جانب على جانب ولا تطغى ناحية على ناحية، ولديه من الأراضي الزراعية مساحات شاسعة قابلة لإنتاج اقتصادي ومشروعات المياه التي تروي هذه الأراضي حققت فيها المملكة نجاحات غير مسبوقة.
5- ما يفاخر به المجتمع السعودي -وحق له أن يفاخر- هو أمنه واستقراره، فمن غير الأمن والاستقرار لا زراعة ولا صناعة ولا تجارة ولا تنمية، وإنما خراب وضياع ودمار، ولعله من المفيد أن نقول: إن السبب وراء ما تحقق من الاستقرار وانخفاض معدلات الجريمة يرجع إلى التمسك بأحكام الشريعة الإسلامية الغراء التي تضمن للناس الأمن على أرواحهم وعقائدهم وممتلكاتهم مما يعطي الأولوية والاهتمام بعد ذلك إلى العمل والإنتاج. ثم ختم الباحث دراسته بضرورة تحصين المجتمع السعودي عن سلبيات الانفتاح غير المنضبط، وأشار إلى أن التحصين يأتي بالتعريف بالثوابت الإسلامية والحرص عليها والمواءمة فيها بما يشبع رغبات الشباب والشابات وكيفية التعامل معهم واحتوائهم بمشاركتهم لمستجدات العصر وتشجيعهم على الحسن وتحذيرهم من الشرور وما يخدش الحياء ويمس العقيدة واحتوائهم فكرياً، على أن الاحتواء الفكري لا ينحصر على رب الأسرة فقط وإنما تشترك معه مؤسسات الدولة الإعلامية والتعليمية والثقافية ومؤسسات المجتمع المدني كافة بما يتلاءم مع مستجدات العصر وما لا يتعارض مع ثوابتنا الإسلامية حتى لا يذهب أبناؤنا وبناتنا للبحث عنها من مصادر مشبوهة أخرى، علماً أن لهذه البلاد خصوصية لا تتأتى لغيرها بحكم أنها مهبط الوحي وبلاد الحرمين الشريفين وحاملة رسالة الدعوة، فلا يمكن مقارنتها بدول أخرى ولا مجال للمقارنة. كما طالب الباحث أن تكون مناهجنا التربوية وأسلوبها التعليمي ونشاطاتها اللاصفية تتناغم مع مستجدات العصر وتلمس رغبات أبنائنا وبناتنا بتهيئة الحرية المسؤولة والمنضبطة في ممارسة هواياتهم وتلمس رغباتهم الترفيهية البريئة وتشجيعهم على البوح بما في أنفسهم والمصارحة من دون خوف أو ريبة. ولو تم ذلك لما حصل من بعض شبابنا وفتياتنا الانجرار وراء سلوك مشبوه أو الارتماء في أحضان عادات وثقافات دخيلة علينا سواء أمراضاً فكرية متطرفة على ديننا ووسطيتنا أو من جانب آخر عكس ذلك من تغريب وتقليد للمستورد السيئ وانفتاح غير أخلاقي وغير منضبط وغير مسئول ومخالف لثوابتنا الإسلامية.
Dr-a-shagha@hotmail.com