لعلي أبدأ بادئ ذي بدء ببعض أئمة المسجد الحرام وليسوا جميعاً.. بعض مشايخنا استمعت إلى خطبهم خلال شهرين متتابعين، هما الربيعان، ربيع الأول وربيع الآخر 1430هـ.. ولم أكن في البيت الحرام، ولكني كنت خارج بلادي في مدينة تونس، وفرق التوقيت ساعتان، ومن توفيق الله، كنت أستمع إلى خطبتين من المسجد الحرام، ثم من مصر، وبعد ذلك أصلي الجمعة في أحد مساجد المنطقة التي أسكن فيها.
ومن خلال متابعتي للخطب التي تبث من منبر الحرم المكي، لا حظت أن بعض مشايخنا يتكلف في ما يلقي ويقدم، يتكلف السجع تكلفاً لا يضيف أي جمال بلاغي أو بياني أو سلاسة تضاف إلى المعاني، ولا ريب أن البحث في تجميع تلك السجعات يأخذ جهداً ومشقة، والمحصلة لمسلمة جمل لا رابط بينها سوى إيقاعها المطرد.. وذكرني هذا السجع الثقيل الذي لا يؤدي إلى أي نسق محبب يشد السامع كزخرف لخطبة جمعة يكفي فيها بجانب الموعظة أن يكون بيانها مشرقاً أخّاذاً إن أمكن ذلك.. ولا أبالغ إذا قلت إن هذا النمط من الكلام، يذكرني بالأساليب التي كانت في أدب القرون الوسطى في عصر الضعف الأدبي، وكذلك ما قرأت في أولويات العقود الأولى من القرن الرابع عشر الهجري، وأنا لا أزعم أن من واجبي أن أملي آرائي على شيوخي الفضلاء؛ غير أني أبدي رأياً متواضعاً وليس نقداً، حتى لا يظن ظان أن بعض مشايخنا أرادوا أن يجملوا ما يقولون في أقدس بقاع الأرض من المسجد الحرام، فيلقون خطب الجمعة، ونحن المسلمين، ليوم الجمعة فينا قيمة مقدسة عالية في نفوسنا، حيث يسعى المسلمون في مساجدهم ليستمعوا إلى المواعظ والنصح في ملتقيات جامعة عظيمة، ولا أعظم على وجه البسيطة من المسجد الحرام، حتى إن الصلاة فيه بمئة ألف صلاة.. إن ما أقوله رجاء إلى مشايخنا الفضلاء، أن يدعوا هذا التكلف في الأسجاع التي لا تضيف شيئاً إلى هدف ما تحمل خطب الجمعة من هدى ونصح وتذكير ودعاء، ولتكن خطب الجمع معاني ميسرة، يعيها عامة الناس قبل فقيههم، فذلك أدعى وأجدى للمتحدث والسامع!
أما بعض مساجدنا الأخرى عدا المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، فإنها مساجد فيها خطباء يطيلون أحاديثهم، فنرى مصلين قد فرغوا من صلاتهم في أيام الجمع، ويمرون بمساجد أخر ما زال المتحدثون فيها ماضين مطيلين، مما يحدث السأم، حتى قدرت أن أولئك الخطباء في هذه المساجد لا يقدرون حالات بعض المصلين من أمراض لعل في مقدمتها وأكثرها شيوعاً مرض السكري، وحالة معروفة.. والإطالة في خطب الجمع كالإطالة في الصلاة، وقد أنكر رسولنا صلى الله عليه وسلم على الصحابي الجليل معاذ بن جبل، حين سمع أن هذا الصحابي يطيل في الصلاة وهو إمام، فقال معلم الناس البشير النذير لمعاذ: أمفتن أنت يا معاذ، ثم قال: من أمّ فليخفف، فإن فيكم المريض وذا الحاجة.. إذاً، فانطلاقاً من هذا التوجيه الكريم، فإن خطباء الجمع المطيلين ينبغي أن يخففوا رحمة ببعض المصلين ذوي الحاجة، وحتى سواهم، فإن المبالغة في الإطالة تنفر الناس منهم، فيسعون إلى مساجد أخر خطباؤها ذوو قصد وتوازن!
وأحسب أن مسؤولي الأوقاف في مدننا مطلوب منهم أن يحضروا ويتنقلوا بين المساجد، حتى إذا وجدوا سرفاً من الخطباء لفتوا أنظارهم إلى ذلك، وطلبوا منهم القصد.. وإن وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد خليقة أن تعني بهذا الجانب الذي أشرت إليه. والله المستعان.