الطريق من عرعر إلى طريف ماراً بحزم الجلاميد ساعتين تبتلعني صحراء وتسلمني لأخرى، عند وصولي إلى مشارف طريف لاحت لي هذه المدينة العتيقة بغرتها البيضاء تفيض جمالاً وألقاً وعمراناً. تغيرت هي طريف أصبحت جديدة..
الشوارع محشوة بالناس والأسواق بالمتبضعين، الشباب يلبسون أحدث التقليعات، والشوارع ازدادت طولاً وعرضاً أكثر من ذي قبل. في أول ليلة لي في طريف ارتأيت أن أزور بعض ناسها وأقضي معهم لحظات استرخاء في بيوتهم الكريمة. في بيت (جدوع) الرجل العتيق جلسنا على ربوة اصطناعية تحيطها شجيرات وورد متنوع وقرنفل وياسمين شامي وفل جيزاني وريحان تهامي حتى إنني أحسست بجسدي يذوب كأنني في وسط جزيرة باردة، بقيت صامتاً لوقت حتى استوعب هذا الجمال الطبيعي الذي صنعه هذا الرجل العتيق بجمالية فائقة وحس ذوقي رائع، في آخر النهار خرجت سوياً مع ثلة من (المعازيب) لندلف داخل المدينة التي لم أزرها منذ أمد بعيد، مشينا كثيراً، قفزنا من شارع لآخر، المدينة ليست بالصاخبة وليست بالمكتظة ولها هدوء يعطيك إحساساً بالدهشة لرؤية السحن السمراء الجميلة لوجوه رجال بنوا الأرض وعمروها حتى حولوها إلى لؤلؤة رائعة تقبع في الشمال البعيد. طريف مدينة خالية من الزحام البشري، متباهية بجدائلها الشقراء، لها عبق معجون من حب وسلام، تحيطها رائحه الليل المبلل بالندى فينساب إليك الهواء عليلاً مثل شلال صغير يعزف أنشودة الماء من غير هدير، مفعماً أنا بحب بهذه المدينة النائية كلما أتجول فيها ترجعني إليها نقطة انطلاقتي من جديد، عندما صارت الشمس تنوراً أحمر عندها خرجنا من المدينة نحو الطريق الدولي حيث ترى في البعد المقابل للطريق الشاحنات الصغيره التي تسمى ب(الحصنية) مغبرة عائدة للتو من رحلة عناء تعبر عباب الطريق بتثاقل ينم عن ردائة محركاتها القديمة وقدم السنين يقودها رجال شداد أحرقت وجوههم لهيب الحياة وعنائها وتعبها وأضنتهم حاجة العيش. طريف مدينة نرجس وأديم فرح وضياء وليل ممتد حتى الصباح، طريف المدينة الأميرة التي هيجت في شبق الهوى بشعرها الصحراوي المتطاير على أجنحة الرياح نحو الآماد اللامتناهية. طريف المدينة التي أغرتني بجسدها الصحراوي الملتهب بدفء أديمها لأحتضنها مطوقاً خصرها بذراعين معطرين بالسدر والأثل ونباتات الربيع البرية وأغدوا أرقص معها كل مساء على موسيقى الهوى العليل وحداء الراعي الشمالي الجميل. طريف مدينة الرمل التي أبدعها الخالق واختارها لتمد سيلاً من الضياء بين مفاتنها وبين أعين أبنائها. طريف مدينة تترعرع فيها دفء المواقد وسقي دلال القهوة وأباريق الشاي. طريف كانت لا تتجاوز سبعين داراً حتى اهتزت اليوم وربت وأنبتت من مختلف حقول الإبداع الإنساني والعمراني شيئاً طيباً مستساغاً، طريف مدينة انبثقت براعمها وصارت تكبر وتميل بأغصانها نحو الضوء حالمة باتجاه التطاول. طريف مدينة تنسج من خيوط الحياة الكثير لتقهر التراب والرمل وتحيلهما إلى عناقيد ضوء وحبات لؤلؤ. طريف مدينة عندما أدير ظهري لها مودعاً أحس أن قلبي يلتفت إليها لفرط محبتها وطيبة ناسها وهممهم الجبارة. ولأنني طيلة إقامتي فيها اعتدت على إيقاعها الحياتي الهادئ الذي يشعرني بنشوة جميلة لكنني أظل أحملها معي إلى آخر شواطئ الحلم ونفس الحياة بعشق أزلي لأنها تختلف عن سائر مدن الدنيا ولأنها تسرقني بمحبتها، هواء ولهجة وعادات ولربما ثمة ما أجهله لما وراء هذه الألفة.
ramadan.al-anazi@aliaf.com