Al Jazirah NewsPaper Friday  24/04/2009 G Issue 13357
الجمعة 28 ربيع الثاني 1430   العدد  13357

نوازع
الضرب بسبب الحب
د. محمد بن عبد الرحمن البشر

 

لقد حاولت جاهداً أن أسلو عن ذكر معشوقتي ولاّدة بنت المستكفي، فهجرت الحديث عنها بضعة أشهر، وكنت أدافع النفس أن تثوب إلى رشدها وتترك ولاّدة في سبيلها لكن النفس تأبى السلوان، وتعود إلى الاستمتاع بتذكر من تحب، وتحن إليه حنين الأسد إلى عرينه، ولذا فقد قال ابن زيدون:

كيف السلو عن الذي

مثواه -من قلبي- السواد

ملك القلوب بحسنه

فلها -إذا أمر- انقياد

يا هاجري كم أستفيد

الصبر منك فلا أفاد

إن أجن ذنباً في الهوى

-خطأ- فقد يكبو الجواد

كان الرضى -وأعيذه

أن يعقب الكون الفساد

وحديثنا في هذه العجالة عن ضرب الحبيب لحبيبته، وضرب الحبيبة لحبيبها، فكلا الطرفين ربما يضرب صاحبه حال غضب، أو لسوء فعل، أو لغيره، أو لدلال ومزاح، والضرب حتى للدلال والمزاح مدخلٌ للتشاجر ومصدر للتنافر، ولذا فالأولى كف اليد، والاكتفاء باللسان، فهو أبلغ في اللوم. أو الاقتصار على تعابير الوجه، وهي الأسرع والأجدى لكنها جبلات الخلق وخلالهم، ومشاربهم ومنابع ثقافاتهم.

وهناك من يضرب طرفاً ثالثاً للتعبير عن غضبه على صاحبه لغيرة اعترته.

ولولاّدة بنت المستكفى قصة مع ابن زيدون في ذلك، فقد كانا جالسين في سعادة تامة وبين يديهما مغنية اسمها عتبة تغني بأبيات منها:

أحبتنا إني بلغت مؤملي

وساعدني حظي وواصلني حبي

وجاء يهنيني البشير بقربه

فأعطيته نفسي وزدت له قلبي

فطرب ابن زيدون وطلب من عتبة الإعادة، دون استئذان ولاّدة، فكستها الغيرة وثارت ثائرتها، وتجهم وجهها، واختفت ابتسامتها، وقال ابن زيدون عن ذلك:

(فسألتها الإعادة، بغير أمر ولاّدة، فخبا بارق التبسم، وبدأ عارض التجهم) فقامت إلى عتبة وضربتها وطردتها من المجلس، فغادرت تجر ذيل ردائها، وتمسح دمعها، وبدأ العتاب والأخذ والرد فقال ابن زيدون في ذلك:

وما ضربت عتبى لذنب أتت به

ولكنها ولاّدة تشتهي ضربي

فقامت تجر الذيل عاثرة به

وتمسح طل الدمع بالعنب الرطب

ويقول: (فبتنا على العتاب، في غير اصطحاب ومأخذ اللهو متروك، فلما قام خطباء الأطيار، على منابر الأشجار، وأنفت من الاعتراف، وباكرت إلى الانصراف، وشت بمسك الأنفاس على كافور الأطراس وقالت:

لو كنت تنصت في الهوى ما بيننا

لم تهو جاريتي ولم تتخير

وتركت غصنا مثمراً بجماله

وجنحت للغصن الذي لم يثمر

ولقد علمت بأنني بدر الدجى

لكن دهيت لشقوتي بالمشترى

فولاّدة كانت في ذلك الوقت في الأربعين، بينما عتبة لم تزل صغيرة، وأنصح كل ذي لب يأنس بكل غصن مثمر، وأن يترك ذلك الذي لم يثمر.

هذه الغيرة العارمة التي غشيت ولاّدة في مجلس اجتماع مع حبيبها ابن زيدون شأنها شأن الآخرين، يكتوي بنارها الطرفان، فمن فسرها دليل حب ظل في قلبه محبة حبيبه مع جفائه وبعده عنه، ومن فسرها غير ذلك سلا وانصرف عنها إلى سواها.

وذات يوم اجتمعت ولاّدة مع ابن زيدون في مجلس من مجالسها المشهورة، ويبدو أنه تجاوز حدوده فضربها بيده، وكيف له ذلك وهي ابنة خليفة سابق فقدت أسرتها ملك الأندلس وأصبحت مواطنة تحت ظل حكم ابن جهور الجديد في قرطبة.

فقال ابن زيدون في تلك الحادثة:

إن تكن نالتك بالضرب يدي

وأصابتك بما لم أرد

فلقد كنت -لعمري- فادياً

لك بالمال وبعض الولد

فثقي مني بعهد ثابت

وضمير خالص المعتقد

ولئن ساءك يوم فاعلمي

أن سيتلوه سرور بغد

لم تستمر حال ابن زيدون مع ولاّدة، فانصرفت عنه إلى منافسه الوزير ابن عبدوس وظلت معه حتى بلغا الثمانين، بينما بقي ابن زيدون يقول الشعر والنثر، ويبحث عن رائحة قصور قرطبة لعلها تحمل له أنفاس حبيبته التي أحبها حباً لا مراء فيه، لكنها غيرة النساء وغيرته أيضاً من منافسيه.

لو لم تكن تلك الأحداث لما حصلنا على هذه الثروة الأدبية من ابن زيدون، التي شغلت المهتمين بالأدب الأندلسي حتى عصرنا هذا.

أعود لأقول إن هذا الضرب الذي حدث من ولاّدة لمغنيته عتبة، وذلك الذي حدث من ابن زيدون لولاّدة، مؤسف حقاً حتى وإن كان دلالة حب، فما بالك بأولئك الذين يضربون لأقل خطأ يرتكب، أو اجتهاد غير موفق.

إن الحلم سيد الأخلاق والصبر ثمرته النجاح، لكن أنى لنا هذا ونحن تغلب الهوى، ونستعجل في التصرف دون روية، هدانا الله جميعاً إلى سواء السبيل ورحم ابن زيدون وولاّدة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد