Al Jazirah NewsPaper Friday  24/04/2009 G Issue 13357
الجمعة 28 ربيع الثاني 1430   العدد  13357
رجال صدقوا: البراء بن مالك
د. محمد بن سعد الشويعر

 

واحد من فضلاء الصحابة، ومن السابقين للإسلام، أنصاري خزرجي، إنه البراء بن مالك بن النضر النجاري الخزرجي، وهو أخ أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أبيه وأمه، شهد المشاهد كلها مع رسول الله، بدءا بأحد والخندق، ما عدا بدر، وكان من أشجع الرجال، مقداما لا يهاب ولا يتوانى....

....وعرف ذلك عنه، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يكتب لولاته، ألا تستعملوا البراء على جيش، من جيوش المسلمين، فإنه مهلكة من المهالك، يقدم بهم.

وهذه الخصلة عرفها عنه الصحابة، في مواقف عديدة، في كل معركة تمر أو مشاركة حربية يكون البراء قد حضرها، ومن تلك المواقف ما رصد عنه تاريخيا، في معاركه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حروب الردة.

ففي معركة اليمامة التي هي من حروب الردة، بعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما تولى إمرة المؤمنين، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه لقتال مسيلمة الكذاب، الذي ادعى النبوة.

ولما اشتد القتال بين المسلمين وبني حنيفة، على الحديقة التي فيها مسيلمة كان البراء بن مالك بشجاعته المعهودة، هو الفدائي الذي حسم المعركة، عندما قال: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم، فاحتمل حتى إذا أشرف على الجدار، وهو سور حديقة مسيلمة التي فيها جيشه وسكنه وجميع قوته - وهي بمثابة حصن عظيم -، اقتحم رضي الله عنه هذا السور، وألقى بنفسه في وسط الأعداء وحيدا معتمدا على الله، ثم على قوة إيمانه، وشجاعته المتناهية، لأنه لا يهاب الأعداء مهما كثر عددهم.

واتجه إلى باب الحصن ليفتحه لأصحابه، حتى يدخلوا ولكن القوم، تكاثروا عليه، وقاتلوه فقتل منهم عشرة، وجرح منهم أكثر من ذلك، حتى تمكن من فتح الباب للمسلمين.

فدخل المسلمون متدافعين لنجدته، ولمناجزة الأعداء، فقتل الله مسيلمة وجمعا كثيرا من قومه حتى استسلموا وبعد أن انجلت المعركة وجد المسلمون في البراء بن مالك بضعا وثمانين جراحة، ما بين رمية وضربة.

وبعد أن انتصر المسلمون، وقتل عدو الله زعيمهم مسيلمة الكذاب، أقام خالد بن الوليد بمن معه من المسلمين شهرا كاملا حتى برأ البراء بن مالك بن النضر من جراحه، رضي الله عنه.

وكان البراء بن مالك مع شجاعته وعبادته قد أعطاه الله صوتا حسنا، فكان من الحداة المشهورين، وفي أسفاره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الغزوات كان البراء يحدو بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو حادي الرجال، وأنجشة حادي النساء، والحادي هو الذي يتغنى ببعض الأشعار، بصوت رخيم جميل، وبنغمات معينة تتمشى مع خطوات الإبل في الليل لكي تتشجع الإبل على صوته بالمسير، ويبث الحماسة والنخوة، في من يحدو لهم من الرجال، ويطرد عنهم النعاس.

ومع شجاعته، وقوة بأسه رضي الله عنه كان في مظهره ضعيفا متواضعا، محبا للجهاد في سبيل الله.

يقول عنه الزركلي في موسوعته الأعلام: قتل مئة شخص مبارزة، عدا من قتل في المعارك.

وقد ذكر ابن الجوزي: إن المسلمين انتهوا إلى حائط قد أغلق بابه، فيه رجال من المشركين، فجلس البراء بن مالك على ترس، وقال: ارفعوني برماحكم، فألقوني عليهم، ففعلوا وأدركوه وقد قتل منهم عشرة.

وفي موقعه (تُسْتَرْ)، وهي أعظم مدينة (بخوزستان) اليوم، كما ذكر ياقوت الحموي في معجمه، وبها سور، ويقال: إن هذا هو أول سور بني على المدن.

قال ابن المقفع: هو أول سور وضع في الأرض، بعد الطوفان، ولا يُدْرى من بناه، وفيها قبر البراء بن مالك، رضي الله عنه حيث قتل في الغزوة التي جعل الله سبب فتحها دعاء البراء بن مالك رضي الله عنه.

فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (رب أشعث أغبر لا يؤبه له، لو أقسم على الله عز وجل لأبره، منهم البراء بن مالك).

وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه (تُسْتَرْ) بعد فتحها، في أرض البصرة، لقربها منها، أي جعلها تابعة إداريا لها.

وعن فتح هذه المدينة، ذكر البلاذري: إن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، لما فتح (سرق) سار منها إلى (تستر)، وبها شوكة العدو، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يطلب المدد، فكتب عمر إلى عمار بن ياسر يأمره بالمسير إليه، في أهل الكوفة، فقدم عمار جرير بن عبدالله البجلي، وسار حتى أتى تستر، وكان على ميمنة أبي موسى البراء بن مالك، أخ أنس بن مالك، رضي الله عنه، وعلى ميسرته مجزأة بن ثور السدوسي، وعلى الخيل أنس بن مالك رضي الله عنه، وعلى ميمنة عمار البراء بن عازب الأنصاري، وعلى ميسرته: حذيفة بن اليمان العبسي، وعلى خيلة قرظة بن كعب الأنصاري، وعلى رحاله، النعمان بن مقرن المزني، فقاتلهم أهل تستر قتالا شديدا.

قال ابن الأثير في الإصابة، فلما كان يوم تستر، من بلاد فارس انكشف الناس، فقال المسلمون يا براء بن مالك، أقسم على ربك، فقال رضي الله عنه، أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبيك صلى الله عليه وسلم، فحمل وحمل الناس معه، فقتل البراء، مرزبان الزأرة (المرزبان الرئيس المقدم، والزرة: الأجمة، سميت بها لزئير الأسد فيها)، ومرزبان الزأرة من عظماء الفرس، وأخذ سلبه، فانهزم الفرس.

وعلى باب تستر ضاربهم البراء بن مالك ضربا شديدا، حتى فتح باب الحصن ودخله المسلمون، وقد قتل البراء رضي الله عنه على الباب، قيل قتله المرزبان الذي قتل بعد ذلك في المدينة، قتله عبيد الله بن عمر بن الخطاب، متهما إياه بتحريض الغلام. يعني بذلك المجوسي - أبو لؤلؤة - على قتل عمر، أخذا بثأر عمر، وقيل: إن مقتل البراء، كان في سنة عشرين في قول الواقدي، وقيل سنة (19) تسع عشرة، وقيل سنة (23) ثلاث وعشرين. والله أعلم.

وهذه الدعوة المستجابة تكون لدى العارفين بالله سبحانه حقيقة، الممتثلين أوامره، الزاهدين في الدنيا الذين لا يرون أن يعرف الناس عنهم ذلك. وقد عرفت في أناس كثيرين كأويس القرني، ومحمد بن واسع وسعيد بن جبير وغيرهم، ممن يزهدون في معرفة الناس عنهم، ما أعطاهم الله من الكرامة، وإذا عرفوا دعوا الله أن يقتلوا شهداء، وتأتي سيرهم في التاريخ، وكتب التراجم، وهم في الغالب يبتعدون عن الناس، إذا عرف عنهم الدعوات المستجابة خوفا من الفتنة، من ذلك ما ذكره ابن عساكر، رواية عن محمد بن المنكدر، قال: أمحلنا بالمدينة إمحالا شديدا، وتوالت سنون، وإني لفي المسجد، بعد شطر الليل، وليس في السماء سحابة، وإنا في مقدم المسجد، فدخل أمامي رجل متقنع برداء عليه، وأسمعه يلح في الدعاء، إلى أن سمعته يقول: أقسمت عليك أي رب قسما، ويردده.

فما زال يردد هذا القسم: أقسم عليك أي رب من ساعتي هذه، أن تغيث المسلمين، وأن تفرج عنهم.

قال: فوالله إن مشينا، حتى رأيت السحاب يتألف، وما رأينا قبل ذلك في السماء قزعة ولا شيئا، ثم مطرت فسحت فكانت السماء عزالى، وأودع مطرا ما رأيته قط، ولا مثله.

فأسمعه يقول: أي رب لا هدم فيه ولا غرق، ولا ملأ فيه ولا محق.

قال: ثم سلم الإمام في الصبح، وتقنع الرجل منصرفا..

وتبعته حتى جاء زقاق اللبادين، فدخل في مشربة له، فلما أصبحت سألت عنه، قالوا: هذا زياد النجار، هذا رجل ليس له فراش، إنما يكابد الليل صلاة ودعاء، وهو من الدعائين، وكل عمل يعمله يخفيه جهده، فذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رب ذي طمرين خفي، لو أقسم على الله لأبره).

فلما سبحت أتيته، فإذا أنا أسمع نجرا في بيته، فسلمت وقلت: أأدخل؟ قال: ادخل فإذا هو ينجر أقداحا، يعملها، فقلت: كيف أصبحت أصلحك الله.. فاستشهرها وأعظمها مني، فلما رأيت ذلك، قلت: إني سمعت إقسامك البارحة على الله، يا أخي هل في نفقة تعينك عن هذا، وتفرغك لما تريد من الآخرة، قال: لا.. ولا يمكن غير هذا، ولا تذكرني لأحد، ولا تذكر هذا لأحد حتى أموت، ولا تأتني يابن المنكدر، فإنك إن تأتني شهرتني للناس.

فقلت: إني أحب أن ألقاك، قال: ألقني في المسجد.

وكان فارسيا، فما ذكر ذلك ابن المنكدر لأحد، حتى مات الرجل، قال: ثم انتقل من تلك الدار، ولم ير أين ذهب. فقال أهل تلك الدار: الله بيننا وبين ابن المنكدر: أخرج عنا الرجل الصالح.

وكان يقول: إن الله ليصلح بصلاح الرجل الصالح ولده، وولد ولده، وداره حتى يصل إلى الدويرات حوله، ما يزالون في حفظ الله.

وحدث محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك قال: استلقى البراء بن مالك، على ظهره، ثم ترنم فقال له أنس، أي أخي، فاستوى جالسا فقال: أتراني أموت على فراشي، وقد قتلت مائة من المشركين، مبارزة سوى من شاركت في قتله.

وعن صوته الحسن، ورجزه برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يستمع له الرسول الكريم، ويستأنس له، يقول أخوه أنس بن مالك رضي الله عنه: كان البراء بن مالك رجلا حسن الصوت، فكان يرجز برسول الله، فبينما هو يرجز برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، إذ قارب النساء، قال رسول الله له: (إياك والقوارير) (إياك والقوارير) مرتين مؤكدا عليه ذلك.

ولرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا نظرة شرعية، شبيهة بوصيته عليه الصلاة والسلام، لأخيه أنس بن مالك ، عندما بلغ الحلم، فقال له: لا تدخل على النساء، إلا مستأذنا، لأن أنسا، كان خادما لرسول الله صلى الله عليه وسلم.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد