المجتمع العربي مجتمع عاطفي ذو مشاعر مرهفة وخيال واسع، يدل على ذلك تفوقه الأدبي البلاغي على حساب الجوانب الحضارية والعلمية، والدليل على ذلك أن العرب - خصوصاً في الجزيرة العربية - لم يتركوا آثاراً معمارية، ولم يشيدوا صروحاً حضارية كما فعل الرومان أو الصينيون أو الفرس، وإنما أرثوا كلاماً أدبياً تمثل في المعلقات والأشعار والمقامات النثرية والقصص والحكايات والأمثال السائرة.
|
ولهذا فلا غرو أن يطرب أحفادهم لذوي الفصاحة والكلام السردي الذي يفيض بالبطولات والقصص العاطفية والأشعار المؤثرة، على حساب الحقائق العلمية، فكانوا يتلقون القصص والأخبار دون أن يأبه أحدهم كثيراً بالسؤال عن الإثبات، أو كما قال الشاعر العربي:
|
لا يسألون أخاهم حين يندبهم |
في الحادثات على ما قال برهانا |
وفي هذا الوسط الأدبي الخيالي كان لا بد لأحاديث السمر أن تسيطر على العقول وأن تحتل مكانة مرموقة في فكر المجتمع العربي، الذي يطرب لحكايات ألف ليلة وليلة، ومعارك الزير سالم، وسيرة أبي زيد الهلالي، وذياب بن غانم وغيرهم، وأن تجد قصص بني هلال وما شابهها هذا الرواج وهذه المتابعة الشعبية، وأن تشغل حيزاً كبيراً من تاريخنا المحلي دون أن تكون لها مصادر علمية يعتد بها.
|
إن سعة خيال الإنسان العربي، وقدرته على إكمال الصورة القصصية جعلت رواته لا يجدون صعوبة في بناء السير والأخبار والأمجاد المدعمة بالشعر الذي هو ختم المصادقة والإثبات لدى المتلقي العربي.. فكان الراوي لا يحتاج إلاّ إلى اسم مشهور مثل: سيف بن ذي يزن، أو المهلهل، أو عنترة، أو الزير سالم، أو أبو زيد الهلالي، أو ذياب بن غانم، أو جحا، أو الخلاوي، أو شايع الأمسح، أو نمر بن عدوان، أو محسن الهزاني، أو غيرهم من المشاهير ....إلخ.
|
ولا يعني هذا إنكار كل ما نسب إلى تلك الشخصيات التاريخية، وإنما ينبغي ألاّ نجزم بصحة كل ما ينسبه الحكواتيون إليهم! وفي هذا الصدد يقول أ. د. محمد الهرفي في مقال له في المجلة العربية (رجب 1424هـ، ص104-105): (إن السيرة الشعبية التي لا ترتكز على أصل تاريخي يمت إلى الحقيقة، إنما هي نسيج من خيالات وأحلام وأوهام تتشابك مع ظلال من الحقيقة في الإطار العام للسيرة وليس في جزئياتها التي ربما كانت مقتصرة على الجانب الوهمي الخيالي دون غيره..).
|
لا شك أن مجتمعاً يتكئ في ثقافته على حكايات (كان يا ما كان) التي ينسجها الحكواتيون ويجيد الرواة حفظها، وتتناقلها الأجيال، ويتلقفها تجار النشر، سيكون ميالاً إلى الاستماع أكثر منه إلى القراءة وإن كان دينه يقوم على مبدأ (إقرأ). لأن القراءة هي الطريق إلى العلم، والعلم هو الطريق إلى معرفة الحقيقة، ومعرفة الحقيقة هي الطريق إلى محاربة الخرافة.
|
إن سبب ضعف المسلمين ووهنهم مع عظمة دينهم واكتمال متطلبات البناء الحضاري والإنساني فيه؛ هو إعراضهم عن العمل بما يدعوهم إليه من مقومات بناء الإنسان فكراً وسلوكاً ابتداء من القراءة وانتهاء بإماطة الأذى عن الطريق.. وإذا كانت أمتنا قد تأخرت كثيراً بسبب الميل إلى السماع والطرب إلى بليغ الكلام حتى وإن كان قول شاعر، فإن مستقبلها القريب لا يبعث على التفاؤل ونحن نرى هذا الانجراف المحموم نحو الشعر العامي ورموزه مع بزوغ ظاهرة جيل شاعر المليون، وقنوات شيلات المديح المدفوع الثمن لأصحاب الإبل المبيضة بالأصباغ الصناعية، والمنظفة بالشامبو والمعطرة بالعطور الباريسية!
|
تذكرت هذا، وأنا أتابع التقرير العالمي الذي نشر مؤخراً والذي مفاده أن معدل ما يقرؤه الفرد العربي في العام 4 صفحات فقط، مقابل 40 كتاباً يقرؤها الإسرائيلي!
|
|