من المقولات التي كثيراً ما نسمعها ممن يعترضون على تقنين الشريعة في المملكة مقولة أن كل من يدعو إلى ذلك متأثر بالثقافة (الغربية)، أو أنهم يريدون منا أن نسير على الطريقة الغربية للتشريع، غير أن التاريخ يؤكد أن ما يقوله أولئك يفتقر إلى الدقة، فأول من دعا إلى (التقنين)، وفي رسالة مدونة ومشهورة، هو عبدالله بن المقفع، المثقف والأديب المسلم المشهور، قبل أن نعرف (الغرب) وثقافة الغرب، وقبل أن تصبح ذريعة رفض (التغريب) حجة من لا حجة له من أولئك (الممانعين) لكل حركة تحديثية.
يقول ابن المقفع في (رسالة الصحابة)، وهي مخطوطة موجهة على شكل رسالة إلى الخليفة العباسي المنصور: (ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين (الكوفة والبصرة) وغيرهما من الأمصار والنواحي اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرا عظيما في الدماء والفروج والأموال، فيستحل الدم والفرج بالحيرة، وهما يحرمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة فيستحل في ناحية منها ما يحرم في ناحية أخرى) ويواصل: (فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الاقضية والسير المختلفة فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر في ذلك أمير المؤمنين، وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله، ويعزم عليه عزما وينهي عن القضاء بخلافه وكتب بذلك كتابا جامعا، لرجونا أن يجعل الله من هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكماً واحداً صواباً)، ورغم أن هناك بعض الأقوال والشكوك التي تدور حول (نزاهة) عبدالله بن المقفع إلا أن هذه الشكوك لا تعني رد كل آرائه، فالحكمة دائماً ضالة المؤمن يستفيد منها حيث وجدها، بغض النظر عمن قالها.
ومن يقرأ رسالة ابن المقفع قراءة متفحصة يجد أنه كان يريد من التقنين أو التدوين، ومن ثم الإلزام انتقال السلطة من (الأشخاص - القضاة) إلى (مؤسسة الدولة)، فالدولة الممثلة (بولي الأمر - الخليفة) هي التي ستنظر فيما يرفع إليها من اجتهادات وقياسات، وتقوم بعد ذلك بفرضها - تقنينها - على كل من يعيشون في الدولة، أو كما يقول ابن المقفع بالنص: (ويعزم عليه عزما وينهي عن القضاء بخلافه)، وما أشار إليه ابن المقفع في رسالته، والمبررات التي جعل منها مسوغات لمطالبته السلطة الحاكمة في زمنه (بتقنين) الأحكام هي ذات الأسباب والبواعث والدوافع التي جعلتنا اليوم نطالب بتقنين الشريعة.
بقيت دعوة ابن المقفع رهن الكتب، ولم تعرف النور عملياً حتى نحا العثمانيون إلى (تقنين) الشريعة، و(أصدروا مجلة (الأحكام العدلية) عام 1869م، واحتوت على 1851 مادة استمد أغلبها من الفقه الحنفي)، كما أن هناك محاولات عدة لتقنين الشريعة، لعل أشهرها بالنسبة لنا ما أنجزه الشيخ والقاضي أحمد عبدالله القارئ - رحمه الله - في مؤلفه الذي حمل عنوان (مجلة الأحكام الشرعية)، والتزم فيه بمذهب الإمام أحمد بن حنبل.
وفي تقديري أن النظام الجديد للقضاء الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - مؤخراً، ويجري الآن العمل على تطبيقه، لن يؤدي عمله كما ينبغي ما لم (نقنن) الشريعة. بقاء الأمر معتمداً على اجتهادات القضاة وتقديراتهم الشخصية لايتناسب مع هذا العصر، والعالم يصغر يوماً بعد يوم، وتقصر المسافات، وتتلاشى الخصوصيات، الأمر الذي يتطلب منا مجاراة للواقع، وما يتطلبه هذا الواقع من مستجدات، تقنين أحكام الشريعة، إلى اللقاء.