الرياض - خاص بـ (الجزيرة)
حرص الإسلام على غرس القيم والمبادئ التي تعلي من مكانة الإنسان في مجتمعه، وتبعده عن مواطن الشبهات، وتعصمه من أسباب الفتن، فقد كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الفتن، فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي يدعو في الصلاة: (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال)، وباب الفتن باب واسع، وله أحكام في مواطن عدة، فما هي أسباب الفتن؟ وكيف يمكن وقاية المجتمع منها؟ وكيف يتعامل المسلم مع الفتنة إذا حدثت؟
طرحنا تلك التساؤلات وغيرها على عدد من الأكاديميين المتخصصين في العلوم الشرعية، فماذا يقولون؟!
فتنة المسلمين.. ودعاتها!
الدكتور عصام بن عبدالمحسن الحميدان - أستاذ القرآن الكريم وعلومه المساعد بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن.. قال: الفتنة هي الاختبار كما يفتن الذهب بالنار ليظهر الخبث الذي فيه، وهو ما ورد فيه قوله سبحانه: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ}، والمؤمن يفتن بأنواع كثيرة من الفتن ليبتليه الله عز وجل: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، وهذا الابتلاء يميز الله به الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، ثم قال سبحانه بعدها: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}، وقد فتن الله بعض الأنبياء - عليهم السلام- ليختبرهم، ففتن الله داود عليه السلام:
(وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب)
وفتن سليمان عليه السلام: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}.
والصالحون يخلصون من الشوائب بعد الفتنة، فتصفو قلوبهم لله، وتستقيم أعمالهم لمنهجه وشرعه، قال صلى الله عليه وسلم: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عودا، فأي قلب أشريها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً - شديد السواد- كالكوز مجخياً- منكوساً - لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما اشرب من هواه.
ومن الفتنة: المال، فإن الله تعالى يبتلي المؤمن بماله ليختبره فيم ينفقه، ومن أين يكتسبه، قال سبحانه: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال، والمثال المشين الذي وقع فيه ذلك المنافق الذي فتن بالمال، وقص الله تعالى علينا قصته، فخسر الدينا والآخرة:{وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ}.
وتأتي الفتنة بمعنى الإضلال والصد عن دين الله، كما في قوله سبحانه: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ}، ولا يجوز أن يتسبب المسلم في فتنة المسلمين أو غير المسلمين، بمعنى أن يقول قولاً أو يفعل فعلاً يصد الناس عن دين الله، فيكرههم فيه، قال سبحانه: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وقال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إنك لست بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
ومن أمثلة الصد عن دين الله: شق عصا الطاعة، والاعتراض على الحاكم علناً، فيحدث الفرقة بين المسلمين، فيكون قد فتنهم، والتشكيك في علماء الإسلام الثقات، وفتاواهم إذا اختلفوا - فيما يسوغ فيه الخلاف- فيسبب الفتنة.
الفتنة متنوعة:
وترى الدكتورة هدى بنت دليجان الدليجان - الأستاذ المشارك في التفسير وعلوم القرآن بكلية التربية بالأحساء: أن الفتن هي أمور عامة بين الخير والشر، يصيب الله بها العباد للابتلاء والاختبار والامتحان، فالفتن متنوعة المشارب متعددة المذاهب، لها ألوان شتى، بريقها لامع، وطريقها سائغ.
فقد أخبرنا الله عنها بقوله جل جلاله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}، فجعل اللطيف الخبير أول فتنة للعباد الشهوات، وأول الشهوات شهوة النساء والولد وحب الذهب والفضة وأنواع الخيل المباركة، وهذه أمور مباحة، وهي نعم مباركة من الجليل، فإن أسرف المرء في حبها والانشغال بها كانت فتنة عامة طامة على الفرد والمجتمع، والفتنة نوعان: فتنة الشبهات وهي أعظم الفتنتين وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما.
ففتنة الرجل في المباحات من الشهوات في حب زوجاته وأهله وولده وماله، وقد أخبرنا الحبيب الأمين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن كفارتها ومواجهتها، قال حذيفة رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند عمر رضي الله عنه فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة قلت: أنا كما قاله قال: إنك عليه أو عليها لجريء قلت: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي، قال ليس هذا أريد، ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر (أخرجه البخاري ومسلم).
أما إذا تجاوز المرء من المباحات إلى المحرمات، فخطرها عظيم، ومفاسدها كبائر من الذنوب والآثام، وخسائرها في الأموال والأبدان هائلة، فعلاجها جرعة من إيمان ويقين بما لدى رب العالمين من جنة للمتقين ونار الجحيم للغاوين، التوبة النصوح، قال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.
مجاهدة النفس
وتبين د. الدليجان أن القرآن الكريم دعا في مواجهة الفتن إلى تحقيق الصبر على المأمورات الشرعية، والابتعاد عن زيغ النفس ومخالفة مآربها الدنيئة، ومجاهدة تلبيسات إبليس اللعين المزخرفة بالألوان، فالنفس ضعيفة أمام شهواتها، لكن الإيمان والقرب من الله رب العالمين والتبتل إليه منجاة من هذه الفتن، وكفارة لما يرتكبه العبد من سيئات خلال ضعفه ومجاوبة نزعة نفسه {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا}.
وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الفتن) أخرجه أحمد في المسند وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
أما الفتنة المائجة الهائجة فهي فتنة الشبهات وهي فتنة الخواطر والوساوس الشيطانية إذا انقلبت إلى أفكار قاتلة للنفوس وأعمال إفساد في البلاد باسم الإصلاح والرشاد، وهذه الفتنة تنشأ من ضعف البصيرة، وقلة العلم، وعدم التوفيق لما هو صالح ونافع للعباد والبلاد، من أجل هذا علمنا الله العليم الحكيم دعاء أهل الكهف فقال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}، فالرحمة هي جماع الخير في الدنيا والآخرة، والرشد: جماع خصال الخير في الدنيا، وقدموا الآخرة على الدنيا لأنها هي الغاية وهي الحيوان الكاملة، لكن إذا اقترنت الأفكار الخاطئة بفساد المقصد وحصول الهوى، ولم يكن له رشد من نفسه ولا أثارة من علم، ولا رحمة من رب العباد، فهناك الفتنة العظمى والمصيبة الكبرى، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}، وقال صلى الله عليه وسلم: (يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن ويكثر الهرج، قيل يا رسول الله وما الهرج؟ فقال: هكذا بيده، كأنه يريد القتل) أخرجه البخاري ومسلم.
وهي فتنة المنافقين وأهل البدع وأهل الشرك في كل زمان ومكان، فكل هذا نشأ من شبهة التباس الحق بالباطل والهدى بالضلال، ولم تكن له نية صحيحة فتهديه، ولا علم سديد فيرشده، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}، فالواجب على المسلمين والمسلمات أن تتضافر الجهود الدعوية والتربوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية بالدعوة إلى الابتعاد عن مضلات الفتن من الأفكار والأصدقاء والقنوات من أتباع الشياطين سواء من أهل الشبهات الباطلة أم أهل الشهوات الماجنة، فالحق أبلج يراه كل من أنعم الله عليه بإيمان ويقين والتبتل بالدعاء بأن يهديه رب العالمين إلى الحق المبين.
طوق النجاة عند الفتن
ويؤكد عادل بن محمد العُمري - المحاضر بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة القصيم: إنه إذا أردنا أن نحمي مجتمعنا من الانحراف الفكري عند حدوث الفتن فلابد أن نعمل على إجراءات وآليات وقائية تحول بينه وبين أسباب الانحراف.
ومن أهم تلك الإجراءات ترسيخ مبدأ الوسطية والاعتدال؛ فعلى العلماء والمربين والمثقفين بذل مزيد من الجهد في تعليم الناس الفكر المعتدل والوسطية التي يمثلها هذا الدين، الذي وصف الله عز وجل أهله بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، وقد دلت الدراسات أن معظم حالات الانحراف والإجرام مردها إلى عدم انتظام الفرد الجاني أو المجرم ضمن مسالك الحياة الاجتماعية المعتدلة.
ولا يتم ذلك إلا بتشكيل حصانة ذاتية لدى المجتمع المسلم تتمثل في تحديث طريقته في التفكير، فما كان صالحا في الأمس قد لا يكون صالحا اليوم، ولا بد لنا أن نتعامل مع مشكلة (الوعي عند المجتمع) فكلما تدنى مستوى الوعي، تدنى مستوى التفكير، وإذا كان الوعي خاطئا فسيكون التفكير كذلك، ولن يتصرف الناس بشكل أفضل إلا عندما يتغير مستوى وعيهم، ولن يستطيعوا مواجهة التحديات بأنواعها الفكرية والثقافية وحتى الدينية بمستوى متدنٍ من الوعي، ومستوى الوعي ومواجهة التحديات يحدده مؤسسات المجتمع من مسجد وبيت ومدرسة، وإذا تغير مستوى الوعي عند المجتمع فلن ينساق لدعاة الفتنة والتكفير، وسيكون أكثر ثباتا في الأمور ولن يصغي للشائعات لا سيما التي تبث عبر وسائل الإعلام المختلفة والفضائيات والتي يهدف الكثير منها إلى التشويش على الناس وتفريق كلمتهم وإضعاف وحدتهم، وإذا تغير مستوى الوعي عند المجتمع فسيكون أكثر حرصا على مصالحه الفردية والوطنية وسيكون أكثر عناية بالأمن الاجتماعي والإقليمي والذي يحدده لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، وإذا تغير مستوى الوعي عند المجتمع فإنه عند حدوث الفتن سيعالج الأمور بالحلم والأناة ولن يتسرع في إصدار الأحكام والفتاوى وسيبتعد عن الانفعالات وسيجتهد في تصور الأمور على حقيقتها وفهمها وإدراكها وسبر أعماقها وتقدير خطورتها إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وإذا تغير مستوى الوعي عند المجتمع، فسيكون أكثر التصاقا بالعلماء الذين هم أقدر من غيرهم على التصدي لدعاة الفتنة وللخطاب الديني المتطرف وللجماعات التي تنفذ مضمون ما يأتي في هذا الخطاب، فالمنابر الدينية لها تأثير كبير على الناس ويجب أن تستخدم لحماية المجتمع وتحصينه من مضار الأفكار المتطرفة، ونحن الآن أكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى رفع مستوى الخطاب الديني المعتدل لمواجهة تصاعد الأفكار المتطرفة التي تجتاح بلادنا العربية والإسلامية، والذي بواسطته استطاعت الجماعات المتطرفة أن تختطف الدين وتقدم مفاهيمها واجتهاداتها الدينية للآخرين على أنها الصورة الحقيقية للدين الإسلامي.
تدني المستوى
ويشير العُمري إلى أن تدني مستوى الوعي عند الإنسان المسلم يجعله أكثر عرضة لدعاة الفتنة والتطرف؛ لأنه سيكون سريع الانفعال، سريع التصديق لما يسمع، سهل الاقتناع والاتباع لما يوجه إليه، وعلى الأخص إذا سمع التوجيه ممن يطمئن إلى صدقه، ولن يكون من طبيعته الاعتماد على الأدلة والبراهين وتحليلها وتعليلها والموازنة بينها، وبقدر ما يكون بعيدا عن الأدلة والبراهين يكون بعده عن القدرة على محاكمة الأفكار والمواقف؛ بل سيكون من طبيعته أنه إذا انحاز إلى فكر يفرط في موالاته لما ينحاز إليه إفراطا يمنعه من وضعه موضع التحليل أو المساءلة إذ إنه يعتقد اعتقادا جازما أن فهمه وموقفه هو الصواب الذي لا خطأ فيه، ولا يرى في جانب المخالف حقا يجب أن ينتفع به.