سارة طفلة قروية لم تبلغ الخامسة من عمرها بعد، تعيش في إحدى القرى الوادعة بعيداً عن فوضى المدينة وضوضائها، منحها الله فطرة سليمة تميز بها بين الخير والشر، وبين الحسن والقبيح، وكان من أهم ما عني به أهلها في تربيتها، وأولوه اهتمامهم، تعليم ابنتهم أن جمال الفتاة لا يقف عند حد مظهرها الخارجي، بل يتعداه إلى جوهرها الداخلي الذي يكمن في التزامها بدينها، وحسن أخلاقها، وكمال حشمتها؛ لأن هذا هو معدن الجمال الحقيقي الذي لا يصدأ مع الزمن، بل يزداد غلاء ونفاسة، كما أن سلوكها القويم يجب ألا يكون في مكان دون آخر، أو وقت دون سواه، فهي حيثما كانت يجب أن تكون هي نفسها، فلا يوجد أي مسوغ يجعلها تتجرد من ذلك اللباس الذي ألبسها الله إياه، أو تتبرأ منه، أو تترفع عليه.
ولكن.. وآه من لكن هذه، فما كل ما يتمنى المرء يدركه، ولكل شيء إذا ما تم نقصان، ففي ذات صباح فوجئت والدة سارة بطفلتها تأتي إليها طالبة منها طلباً غريباً؟! لم يخطر لها على بال، ولم تحسب له أي حساب، فسارة لم تطلب نقوداً! ولم تطلب حلوى! ولم تطلب لعبة! ولم تطلب أي شيء مما يطلبه الأطفال في مثل سنها، إنما طلبت من والدتها أن تشتري لها (فستاناً وسخاً)؟! نعم (فستاناً وسخاً) ولا شيء غير ذلك؟!.
لم تستوعب الأم مطلب ابنتها، ولم تفهم مقصدها، فسألتها والدهشة تعلو وجهها: هل يعقل يا ابنتي أن تطلبي مني (فستاناً وسخاً) بدلاً من فستان نظيف أو فستان جديد؟! هل تريدين أن تكوني أضحوكة بين صويحباتك؟ ما الذي جرى لك يا سارتي الحبيبة؟! فأجابتها ابنتها بطفولة بريئة: لا يا أمي.. أنا لا أقصد فستاناً غير نظيف أو فستاناً قديماً، ولكن أقصد فستاناً مثل الذي كانت تلبسه العروس التي حضرنا حفل زفافها يوم أمس في المدينة؟!
شردت والدتها بذهنها قليلاً، وأخذت تستعرض شريط الحفل أمام ناظريها، بحثاً عن شكل ذلك الفستان الذي لم تجد ابنتها وصفاً مناسباً له سوى أنه (فستان وسخ)، فإذا بالفستان المقصود يقف أمامها فتتسمر عيناها عليه، وتشرع في تفحصه من أعلاه إلى أدناه بلهفة وفضول كبيرين، فإذا هو عبارة عن لباس أو لنكن أكثر دقة شبه لباس، لم يكلف صاحبته الكثير من القماش، نوافذه كثيرة، وأبوابه متعددة، وطرقه معبدة، إنه يكاد لا يخفي شيئاً، يعبث الهواء به من كل اتجاه فتجده يعزف مختلف الألحان ويبرز أزهى الألوان، إنه باختصار عبارة عن دعوة مفتوحة للجميع.
عندها وجدت الأم نفسها تصرخ دونما شعور: حقاً يا ابنتي إنه (فستان وسخ) بحسب تعبيرك الطفولي ولكنها وساخة من نوع آخر، وأقبلت على ابنتها تضمها إلى صدرها في حنان بالغ قائلة: ابنتي.. حبيبتي.. قرة عيني.. لقد جنيت عليك بحضور ذلك الحفل، فأرجوك أن تسامحيني، فما بنيناه أنا ووالدك في سنوات طويلة أضاعته هذه المناسبة في ساعات قليلة، ولكن.. الحمد لله، الحمد لله أنك ما زلت نبتة صغيرة يانعة، ولا يزال أمامنا متسع من الوقت كي نصحح ما أخطأنا فيه بحقك، ونغرس في أرضك الخصبة كل ما يجعلك قوية الشخصية، راسخة الهوية، فنحن لا نريد مدنية تمسخ الهوية وتشوهها، ولكن مدنية مع تطورها وتجددها تحترم الأصالة وتقدرها.
أحمد بن محمد اليماني