جاءني من أعرفه، متكدر الخاطر، مكتئباً، وقال لي: جئتك لأفرج عن مكنون، مع علمي بأن ليس لك من الأمر شيء، وليس عندك لي من خلاص، لكن علماء النفس نصحوني بأن أتحدث إلى من أثق به فأفضي عن مكنون نفسي لعل ذلك يخفف من وطأة ما أنا فيه قلت له: هات ما عندك، فقال: عجبت من أمري! لم أطرق بابا إلا وأجده موصداً، حيث طرقت أبواباً في التجارة كثيرة، وكلما طرقت باب رزق، وظهر بارق أمل، اعتراه عائق يحيله إلى الفشل، وقررت بعد تأمل أن أبحث عن وظيفة لعلني أجد فيها باباً مفتوحاً، ودخلاً كافياً، فكان الحظ العاثر ملازما لي ملازمة لحمي لعظمي، وحتى في بعض أحوالي الاجتماعية يعتريني بين الفينة والأخرى ما يضيق به صدري، حتى أنني عزمت على تغيير اسمي، امتثالاً للمثل القائل (لكل امرئ من اسمه نصيب) أو كأنه سمع زميل لي اسمه صالح وهو يستشهد ببيت من الشعر يقول:
|
إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه
|
ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه
|
أصغيت لما قال، ولم أشأ أن أكثر عليه السؤال، فالشيطان يكمن في التفاصيل كما يقال. وقلت له: هل علمت أن هناك مفتاحاً سرياً يفتح جميع الأبواب المغلقة، ويوسع كل الطرق الضيقة، ويزيل كل الجدر الموصدة، وهو معك تحمله أينما كنت وحينما وليت؟ فما عليك إلا أن تصدر أمراً صادقاً لقلبك أن يتوجه إلى الله، وإلى لسانك أن يلهج بذكر الله، وعينك أن تدمع من خشية الله بعد هذا كله اجتهد في أن تفعل الأسباب بالجد والصدق والأمانة واليقين المطلق بأن الله لن يخيب لك مسعى، ومما لا ريب فيه أنه سيختار لك الخير حيث كان في أمور دينك ودنياك. وقلت له: عليك ألا تكف عن فعل الخير دون انتظار الثمن، وأن يكون سجية تفعلها ومنهجاً تنهجه، ومسلكاً تسلكه.
|
ذكرني ذلك بقصة قرأتها في كتاب المعجب للمراكشي وما زلت أذكر شيئاً منها. ففي تلك القصة كان عبدالمؤمن الموحدي، ثاني زعماء الموحدين بعد محمد بن تومرت، وأول حكام دولة الموحدين التي توارثها أبناؤه من بعده، سائراً في وسط مدينة باجة بعد أن حاز الحكم من المرابطين، وسأل عن بائع بها سماه باسمه، فأخبره أقرانه البائعون بأنه ذهب في ذمة الله، وسأل إن كان خلف عقباً، فذكروا أنه خلف عدداً من البنين والبنات، وأن أحوالهم ليست في أحسن حال، فأمر بشراء جميع الدكاكين التي بتلك السوق وأوقفها عليهم، وأمر لهم بمال كثير. ثم التفت إلى بعض خواصه وقال لهم: أتدرون لماذا فعلت ما فعلت؟ وعلام سألت عن هذا الرجل؟ قالوا لا، فقال: أتيت إلى هذا البياع مع الإمام محمد بن تومرت ونحن في أضيق عيش وأصعب حال، مرت أيام لم نطعم فيها، وليس معي سوى سكين الدواة التي أكتب بها، فطلبت منه خبزاً وإداماً، ووضعت عنده السكين رهينة، فأبى قبولها وقال لي: إني توسمت فيك الخير، فمتى أعوزك شيء فالدكان بين يديك وبحكمك. فحقه علي أكثر من هذا.
|
لقد قدم صاحب هذا الدكان معروفاً لرجل من عامة الناس لا يعرفه، ولم يدر بخلده بأي حال أن يصبح زعيماً للموحدين يتوارث أبناؤه الحكم من بعده، فعبد المؤمن هذا كان معلماً للصبيان، كان والده صانعاً في عمل الطين يعمل منه الأواني والجرار فيبيعها. وشاء الله تعالى أن تسقط على يده دولة وتقوم أخرى، ولذلك قصة طريفة نومئ إليها إيماءً، فالحديث عنه بحر ذو لجة يحتاج الغوص فيه إلى مجلدات.
|
فهناك كان رجل اسمه محمد بن تومرت من أهل سوس في أقصى المغرب قرأ القرآن وطلب العلم، وانتهى إلى بغداد وسمع الحديث، ونسجت حوله وقائع وخرافات لا حاجة لذكرها، وأخذ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في الحجاز والإسكندرية، فنفاه متولي الإسكندرية عن البلاد، فركب البحر وأخذ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو في السفينة فألقوه في البحر وزعموا أنه أقام نصف يوم يجري في الماء لم يصبه شيء، فلما رأوا ذلك أخذوه معهم في السفينة وما زالوا له مكرمين حتى نزل بلاد الغرب، فأخذ في تدريس العلم والوعظ، واجتمع إليه الناس ومالت إليه القلوب، وأخذ يتنقل في بلاد المغرب فلقي عبدالمؤمن بن علي المذكور، وطلب منه ان يعينه على إماتة المنكر وإحياء العلم وإخماد البدع، فأجابه عبدالمؤمن إلى ما أراد وكثر أتباعهم، وادعى محمد بن تومرت أنه المهدي وألف كتاباً اسمه (أعز ما يطلب) وعقائد في أصول الدين، ولم تزل طاعة قومه وأعوانه له تكثر، وفتنتهم به تشتد، وتعظيمهم له يتأكد، وكان يظهر الزهد، والتشبه بالصالحين، والتشدد في إقامة الحدود، وكان يضرب الناس على الخمر بالأكمام والنعال وعسب النخيل.
|
وبعد وفاة محمد بن تومرت عهد بالأمر بعده إلى عبدالمؤمن بن علي، فكانت حروب بين المرابطين والموحدين انتهت إلى انتصار الموحدين وتوليهم بلاد المغرب الأقصى جميعها، وما بقي من الأندلس.
|
لقد جرنا الحديث عن قصة عبدالمؤمن مع البائع إلى موضوع آخر غير مبتغانا لكنه لا يخلو من فائدة بإذن الله. وأعود لأقول لصاحبي، إن عند الله من الخير كثير، وإن كرمه لا يوصف، وفضله لا يتوقف، ونعمه لا تحصى، ومن ظن بالله خيراً فهو حسبه. وسترى بأم عينك الفلاح والنجاح إن توكلت على الله صادقاً مخلصاً.
|
|