(هربرت مرقس ماركوز) فيلسوف يهودي معاصر، ألماني المولد، أمريكي النشأة. عاش من سنة (1898 إلى 1979م) استخدم طريقة نقد الفكر الحديث في علاقته بالمجتمع الحديث، فكان من أشد نقاده، وكان له بسبب ذلك تأثير سياسي فعال بالغرب، له كتاب (فلسفة النفي) وكتاب (الحب والحضارة) وأصدر سنة (1964م) كتاباً باسم (الإنسان ذو النظرة الواحدة) أو ذو البعد الواحد، دعا فيه الصفوة إلى استغلال الحركات الطلابية الثورية، واستغلال المنبوذين...
...(والخوارج، والمستغلين، والمضطهدين من مختلف الأجناس والعناصر والألوان، والعاطلين عن العمل، وغير القادرين عليه، للقيام بعمل ثوري جذري يحقق هذا الهدف، وتلتقي فيه أشد قوى الوعي الإنساني المتمثلة بالصفوة، بأشد العناصر البشرية تعرضاً للاستغلال، أو الاضطهاد، والتي يمكن دفعها للثورة الهائجة، واستغلال ثورتها...
إن المتأمل في الواقع الحركي الإسلامي يجده متفقاً مع هذه الاستراتيجية الصهيونية في استغلال تجمعات الطلاب في المدارس والجمعيات والمراكز الصيفية وربطهم بكتب حركية كالظلام ومعالم في الطريق وكتب محمد أمين المصري وأشرطة عبدالله عزام وغيرها من وسائل التهييج والمواجهة، وأكد هذا ناجي في ص 60 وما قبلها وما بعدها في حديثه عن التربية واستقطاب الطلاب، بل إن المسوغين للعمليات الحركية والتفجيرات وكثيراً ممن يجهل الواقع الحركي من الحياديين المستقطبين يركزون على مسائل البطالة والاضطهاد والإقصاء والاستئثار وغيرها من الأمراض الاجتماعية ولذلك نسمع كثيراً من المبررين أن هؤلاء القتلة والمجرمين مرضى نفسيون ويحتاجون إلى مصحات ونقاهات وأن المجتمع مسؤول عن تطرفهم وإجرامهم ولابد من تحقيق مطالبهم ونسوا أن هذه عقيدتهم ومنهجهم ولو كانوا في بروج مشيدة في أحسن المنتجعات، وعن التبرير واستراتيجيته قال ناجي ص 21: إقامة خطة إعلامية تستهدف في كل هذه المراحل تبريراً عقلياً وشرعياً للعمليات خاصة لفك الشعوب والخروج من أسر استهداف أفراد الجماعات الإسلامية الأخرى فإنهم يفهمون كل شيء..!! وإنما الشعوب هي الرقم الصعب الذي سيكون ظهرنا ومددنا في المستقبل، على أن يكون في هذه الخطة من الشفافية بل والاعتراف بالخطأ أحياناً ما يكشف أكاذيب وحيل العدو ويرسخ انطباع الصدق عنا عند الشعوب.
ولذلك لم تفجعني عودة بعضهم إلى الخلايا الحركية بعد نصحه وتوجيهه وقد تحدث ناجي عن جواز الكذب والتزوير على المسؤولين للخروج من فتنة السجون ص 87 -89 مستدلا بحوادث تاريخية في هذا السياق، كما لم تفاجئني اعترافات العوفي الأخيرة وعودة القراصنة في الصومال وبحر العرب لأن استهداف الاقتصاد والبترول أهم فكرة قام عليها كتاب إدارة التوحش وأعجب فيه كثيراً من محاولة مؤلف الكتاب إقناع الجمهور بتحقيق وقوع توقعاته المستحيلة ليهيئ المجتمع نفسياً للفوضى والتوحش بالتركيز على تحقيق وقوع توقعات أسماء حركية في أحداث ماضية، وهذا يجب أن يتنبه له للوقوف أمام أحلامه الشوهاء، ومن ذلك ذكره في ص 8 سيد قطب وعبدالله عزام في حديثهما عن سقوط الاتحاد السوفيتي والانبهار بالطريقة والإحصاء والنتائج، وقد ظهر التناقض في حديثه عن ضرورة الأخذ والتلمذة على يد علماء راسخين في العلم، كما اعترف من حيث لا يشعر بأهمية السياسة الشرعية وحرمة الدماء المعصومة والأموال وضرورة الفقه وتنزيل النصوص والأدلة على الواقع بطريقة صحيحة وليس كما يفعل الحركيون إذ قال ص 26: إحدى المجموعات الجهادية الصغيرة بمصر والتي لم تكن تتبع تنظيمياً جماعة الجهاد بمصر، أسسها أحد الشباب وكان قد طلب العلم بقدر ما ودرس كتاب (العمدة في إعداد العدة) ولكن للأسف أخذ يطبق قواعد علمية مأخوذة من كتب فقه الجهاد وينزلها على فئات دون الرجوع لأهل العلم الراسخين، وركز في الفصل السادس على السياسة الشرعية حيث قال ص 37: نعم بعض من هؤلاء تعاطى السياسة بطريقة غير شرعية في بعض مواقفه وأثمرت له البقاء ونعم هو بقاء محقت منه البركة إلا أنه كذلك هناك من فهم سياسة الأعداء والمجاورين من الحركات الإسلامية الأخرى وتعامل معها بسياسة شرعية فأثمرت كياناً يزداد ببركة العمل لنصرة الدين وبركة عدم مخالفة الشرع نقاءً وثباتاً ورفعة مرحلة بعد مرحلة والحمد لله.. إن العمل السياسي مهم جداً وخطير حتى قال أحدهم: (إن خطأ سياسياً واحداً أوخم عاقبة من مائة خطأ عسكري) وهذا القول على ما فيه من مبالغة كبيرة إلا أنه صحيح بقدر ما يبين من خطورة الخطأ السياسي والسؤال لصفوة تنظيم القاعدة: ما محصلة أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتفجيرات في أوروبا وإفريقيا على الإسلام والمسلمين؟ وأين ذلك من السياسة الشرعية التي تقرر جلب المصالح ودرء المفاسد... والواقع يشهد التضييق على المسلمين واتهام الإسلام من قوى عالمية تملك القرار والسلاح والاقتصاد... ولكن ناجي في كتاب إدارة التوحش يطغى تحقيق المشروع السياسي على التنظير في مسألة السياسة الشرعية فيناقض كل ذلك في تفاصيل الكتاب بتشجيعه الشباب أن يكونوا وقوداً سهلاً لحروب خاسرة يدرك العقلاء وغير العقلاء أنها تخالف أبسط قواعد السياسة فضلاً عن الشرعية التي تسعى إلى حفظ الضرورات الخمس ومكتسبات العباد والبلاد... ولابد من وقفة مع قضيتين تدلان على جهل التنظيم بشرعية ما يقترفه في حق العباد والبلاد، أحدهما السياسة الشرعية في الفكر الحركي ومقارنتها مع منهج السلف الصالح من خلال ما يلي:
1 - السياسة الشرعية: (القيام على شأن الرعية من قِبَل ولاتهم بما يصلحهم من الأمر والنهي والإرشاد والتهذيب، وما يحتاج إليه ذلك من وضع تنظيمات أو ترتيبات إدارية تؤدي إلى تحقيق مصالح الرعية بجلب المنافع أو الأمور الملائمة، ودفع المضار والشرور أو الأمور المنافية) وعرفها بعض أهل العلم المعاصرين فقال: (السياسة الشرعية هي تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار، مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية).
2 - السياسة الشرعية باب من أبواب العلم والفقه في الدين، ومسؤولية قيادة الأمة تحقيق مصالحها الدينية والدنيوية، ولا يتأتى تقديرها الصحيح من قبل العاطفيين وأنصاف المتعلمين وغيرهم ممن لم يتخصص في دراسة الأصول والقواعد الفقهية وعلوم القرآن والسنة، وقد وضح ذلك شيخ الإسلام ابن القيم فقال: (وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب) وقال ابن حجر -رحمه الله- (والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها، ومما ورد في ذلك أيضاً ما جاء في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس، وباب يخرجون) والذي ترجم له البخاري في صحيحه بقوله: باب من ترك بعض الاختيار مخالفة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه، قال ابن حجر: ويستفاد منه أن الإمام يسوس رعيته بما فيهم إصلاحهم، ولو كان مفضولاً، ما لم يكن محرماً.
3 - من أهم ما يميز منهج السلف فيما يخص السياسة الشرعية:
أ - الإدراك الواسع لنصوص الشريعة مع الفهم لها ولما دلت عليه من السياسة ودارسة السياسة الشرعية للخلفاء الراشدين والسف الصالح في الأزمات والفتن والملاحم تحقيقا لمقاصد الشريعة في حفظ الضرورات الخمس.
ب - التفريق بين الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة، والسياسات الجزئية المتغيرة حسب المصالح التي تتقيد بها زماناً ومكاناً.
ج - المعرفة بالواقع والخبرة فيه، وفهم دقائقه، والقدرة على الربط بين الواقع وبين الأدلة الشرعية.
د - رحمة الناظرين في هذا الباب بعضهم بعضاً عند الاختلاف في مواطن الاجتهاد في باب السياسة الشرعية وأنه ليس بمجرد ما يتصور أنه مصلحة وإنما يلزم التقيد في ذلك بالمصالح المعتبرة شرعاً ومن يتأمل واقع التنظيمات الحزبية يجدها معوقاً من معوقات التنمية والحضارة والمدنية... لم تفلح في خدمة العمل الدعوي بسبب جهلها في أصول الإسلام وفروعه.. بل إنها نجحت في تقديم مزيد من الخسائر في الأرواح والممتلكات والدول والشباب.
والأخرى قضية استهداف السفارات والبعثات الدبلوماسية، قال ناجي في كتاب إدارة التوحش ص 33: (ولا يقتصر دفع الثمن في الصورة السابقة على العدو الصليبي فعلى سبيل المثال إذا قام النظام المصري المرتد بعمل قام فيه بقتل وأسر مجموعة من المجاهدين، يمكن أن يقوم شباب الجهاد في الجزيرة أو المغرب بتوجيه ضربة للسفارة المصرية مع بيان تبريري لها أو القيام بخطف دبلوماسيين مصريين كرهائن حتى يتم الإفراج عن مجموعة من المجاهدين مثلاً ونحو ذلك، مع اتباع سياسة الشدة بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب في قلوب العدو وأعوانه) وركز ناجي على ضرب سفارات الولايات المتحدة الأمريكية والقنصليات ومن ذلك عملية القنصلية في جدة لجرها إلى المواجهة في جزيرة العرب وتمجيد عمليتي نيروبي ودار السلام الخاصتين بالسفارة الأمريكية ص 9، بل إننا نجد هذا المنهج لم تسلم منه الدول الإسلامية إذ نقلت وسائل الإعلام كان آخرها خبرا ليلة البارحة أن تنظيم القاعدة يستهدف سفارتي السعودية وقنصلياتها في إسلام آباد الباكستانية ومومباي الهندية، وهذا جهل عظيم بالدين وتشويه للإسلام، وقواعد الشرع المطهر القويم تؤكد ما تعارفت عليه الشعوب قاطبة من احترام السفراء والرسل والمبعوثين من الكفار وعدَّ الإسلام ذلك واجباً على الأمة، وحرم التعرض لهم وإهدار كرامتهم، فما بالك بسفراء الإسلام ودبلوماسييه، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم - يكرم السفراء ويحترمهم، فقد روى الإمام أحمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أكرم رسول قيصر حينما جاء إليه في تبوك وقال: (إنك رسول قوم وإن لك حقا، ولكن جئتنا ونحن مرملون، فقال عثمان بن عفان أنا أكسوه حلة صفورية، وقام رجل من الأنصار على ضيافته) وكان المصطفى في حالة حرب معهم!! فمن يفقه الهدي النبوي من شبابنا اليوم، وذكر ابن الفراء في كتابه رسل الملوك 37 أن رسولا لبعض الملوك ورد على هشام بن عبدالملك فأعد له وحشد، احتراماً وتقديراً لأمته ورائه، وكان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يسمح لسفراء قريش ومندوبيها في صلح الحديبية بالاتصال بقريش ولم يكن يمنعهم من ذلك، مما يؤكد الحصانة الدبلوماسية التي يتمتع بها السفير والدبلوماسي في شرعنا المطهر، روي الإمام أحمد عن نعيم بن مسعود قال: (سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين قرأ كتاب مسيلمة الكذاب قال للمرسلين: فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال من أرسلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما)، وروى أيضاً الإمام أحمد عن أبي رافع عن أبيه عن جده أبي رافع قال: بعثتني قريش إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فلما رأيت النبي- صلى الله عليه وسلم- وقع في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله لا أرجع إليهم قال: (إني لا أخيس العهد ولا أحبس البرد، أرجع إليهم، فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع) والبرد: جمع بريد، وهو الرسول كما قال الزمخشري، ولا يمكن للتاريخ أن ينسى تبسم الخليفة المسلم المأمون لسفير الملك ليون لما أساء في حضرة الخليفة، ومنع أصحابه وحرسه من التعرض له، لأنه يجب شرعاً على الإمام أن يحمي سفراء الدول والملوك من آحاد الناس وعامتهم كما بين ذلك الكاساني في بدائع الصنائع والشيرازي في المهذب واحتراماً لهم ولمهمتهم السلمية أعفاهم الإسلام من دفع الرسوم المالية التي تؤخذ من غير المسلمين، قال أبو يوسف في كتابه الخراج 366 (ولا يؤخذ من الرسول الذي بعث به ملك الروم، ولا من الذي قد أعطي أماناً عُشر، إلا ما كان معهما من متاع التجارة، فأما غير ذلك من متاعهم فلا عشر عليهم فيه)، ونص بعد ذلك القانون الدولي على إعفاء المبعوث الدبلوماسي من أداء الضرائب الشخصية والعوائد المحلية مهما كان نوعها... والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com