شعر الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي يُعبِّر -بحق- عن أشواق روحه ونبضات قلبه وحبه الخير للناس وشعره هو أنينه المكتوم الذي لا يبوح به لأحد، ورغم أنه كتب الشعر منذ فجر شبابه إلا أن تواضعه الذي يترصد لمواهبه المتعددة منعه من جمعه ونشره حتى ألحَّ عليه الأصدقاء والأحباب، فجمع بعضا منه ونشره في ديوان صغير في السلسلة الشعرية لدار الرفاعي بعنوان (ظلال ولا أغصان) في سنة 1413هـ، قسّم الديوان إلى خمسة أقسام: في ظلال الدعاء، في ظلال الطبيعة، في ظلال المناسبات، وفي ظلال الصداقة، وعنوان الديوان وبعض موضوعاته التي ترتبط بالوجدان والطبيعة تضع شاعرنا في مصاف الشعراء الرومانسيين الأوائل في جزيرة العرب - لا المملكة فحسب - لأن معظم قصائد الديوان تنتمي إلى الستينيات الهجرية بكل ما كان فيها من حماس وطاقة وتدفق وحرارة، ومع ذلك فرومانسية الأستاذ الرفاعي كانت تخضع أيضاً لمنهج الرفاعي صاحب الرسالة، فلم يكن يبعد بالحلم عن الواقع، بل هو يجسد الحلم ويحوله إلى مثالية تحتذى، وهو في مثاله يزاوج دائماً بين الرؤية المستقبلية وواقع الحال، ولكنه لا يستسلم أبداً ولا ينفك عن العمل لتحقيق أمانيه.. اسمعه يقول:
|
يا أماني إذا طال النوى
|
ومضى العمر وقد عزَّ اللقاء
|
لا تخالي أن روحاً ناقداً
|
يرتضي الزيف ويغريه الطلاء
|
ليس من عاش بقلب مثل من
|
عاش لا قلب له أو لا ضياء
|
مثلي العليا هي السلوى إذا
|
عز في الدنيا على الحُر العزاء
|
وهو يتخذ من الإيمان بالله والعودة إليه قلعة حصينة يلوذ بها في أوقات الرخاء والشدة معا، والاعتصام بالله والاستعلاء بالإيمان على واقع الحياة سمة لا يخطئها المتأمل لشعر الرفاعي، فهذا هو الأستاذ يرتفع صوته الهادئ عالياً، فالإيمان يدوي في الكلمات ويعطيها زخماً وحرارة وصدقاً في قوله بثقة:
|
يا ساعة لليأس يشرق
|
في دياجيها مُضائي
|
لا.. لا.. لن أذل وأستكين
|
ولن تنالي من بنائي
|
أنا صامد بالله ترعد
|
العواصف من إبائي
|
وهو يعرف طريقه ويحدد هدفه مبكراً في وقت كان البعض يبحث فيه عن طريق ويسير بلاهدف، ويتلخص حلم أستاذنا في العلم والقلم والمجد والقمم وما حققه ويحققه خلال عمره المديد -إن شاء الله-:
|
أما عن الحلم في أفياء ما رسمت
|
له الخيالات عن مجد وعن قمم
|
فقد أصاخ لداع في قرارته
|
أن الحياة حياة العلم والقلم
|
يقول لبيك لكن ما شرائطها
|
فيهتف السر: ألوان من الهمم
|
وتمسّك الأستاذ بهذه الألوان من الهمم، همم تدفع إلى نهوض المسلمين ووحدة المسلمين والتئام صفوف المسلمين فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، والحل يقوله أستاذ بنغم تحتشد فيه نبرات الإيمان بحتمية عودة القدس.
|
يجمع المشرقين دين حنيف
|
لم يزل بيننا الملاذ المآلا
|
لو لزمنا صراطه لاستقمنا
|
وجعلناه للعدى زلزالا
|
جمع الدين تائهين علينا
|
وافترقنا، عن ديننا ضلالا
|
موعد الملتقى هناك على القدس
|
صفوفا تردع الأهوالا
|
ويجد الأستاذ نفسه في منتديات الفكر والأدب، ويتألَّق في ذات ليلة وهو في سوح العلم والأدب يعد نفسه تلميذاً فيسرف في التواضع -كعادته - ويهتف في الجمع عندما يطلبون منه الحديث:
|
ما أنا في عدادكم غير قلب
|
خلب الحرف لبه فانقادا
|
جئت هذا المساء اطلب علما
|
مثلما يطلب ابترادا
|
والأستاذ يؤمن بالنقد ويراه قوامة كل إبداع حقيقي وبنّاء، وفي سبيل هذا رحبت ندوته بالإبداع مقرونا بنقده واستفاد الكثيرون من شعراء ندوة الرفاعي من المناقشات النقدية التي دارت حول أشعارهم، ولهذا فهو يرى أن غاية الإكرام عنده أن يسمع النقد.
|
أكرموني فقوموني بنقد
|
أنا أشتاق أسمع النقادا
|
ولا يتخلى الأستاذ عن فلسفة الحب التي هي عنده عماد كل شيء صحيح وصحي، لذلك فهو يرى أن النقد لا يتنفس ولا يزدهر إلا في بيئة غنية بالحب، ويحمل أهل الأدب والكلمة والنغم مسؤولية رعاية المحبة بين الناس وبنشر عطرها وأريجها فيه، اسمعه يهمس بهذه النصيحة في آذان الأدباء:
|
أتريدون أن نعيش صفاء
|
ليس نشكو إلى الليالي النفادا
|
امزجوا فكركم بفيض من الحب
|
نحيا به.. فلا نتعادى
|
واجعلوا نقدكم من النور أصفى
|
ليس نارا تورث الأحقادا
|
أجدر الناس بالمحبة ناس
|
عشقوا الحرف، صفحة ومدادا
|
والحقيقة أن الأستاذ الشيخ عبدالعزيز الرفاعي لم يعشق الحرف صفحة ومدادا -فحسب- بل عشقه حرفاً فاعلاً وحرفاً عاملاً متحركاً، وحرفاً مدوياً في المنتديات ومجالس الأدب يصدع بالحق والصدق، ويبشر بالخير والنور ترتاح إليه النفوس، وتهفو إليه القلوب، وتلتف حوله أفئدة الرجال الذين ألف قلوبهم بالحب.
|
واليوم، وقد أفضى الرجل بما عنده إلى ربه لا تجد أنه عندما يمر طائف ذكر عبدالعزيز الرفاعي في مجلس أوفي حديث بين اثنين ترطب الألسنة، وهي تشيد بحسن خلقه وتروي العبر والأمثلة عن إحسانه للمسيء وتسامحه مع المعتدي، وصبره على أذى الناس وحبه لهم مما يجعل سيرته العطرة كتاباً - مفتوحاً يتداوله الناس وينشرون عطره فيما بينهم - وهذا يجعل حسن خلقه أعظم مؤلفاته وأكثرها انتشاراً.
|
جمع عبدالعزيز الرفاعي في حياته بين العلم والأخلاق والدين فبلغ مجداً في قلوب الناس لم يسع إليه ولكن الله أكرمه به في دنياه ويجزيه عنه في آخرته خير الجزاء، فإذا كان أفذاذ الرجال من مثله قد ملأت شهرتهم السمع والبصر، فقد كان عبدالعزيز الرفاعي ملء السمع والبصر والفؤاد.
|
ما مات أديب كبير وصاحب قلم جاد وفكر مستنير إلا وثارت بعد وفاته ضجة تدعو إلى تكريمه وتنشر تراثه، وقد أثبتت عشرات التجارب أن الضجة عمل، وهكذا ضاع تراث عشرات الأدباء والمفكرين بمجرد فتور العواطف وجفاف الدموع وكر الأيام والليالي على الحدث الجلل الذي يدخل في دائرة النسيان بمرور السنين.
|
وعواطف الناس وحماسهم فيه خير كثير؛ لأنه كالنار التي تشتعل فإذا لم تجد من يطبخ عليها ويشبها خبت وتحولت إلى رماد والأستاذ عبدالعزيز الرفاعي - يرحمه الله- شغل الناس بوفاته كما لم يشغلهم في حياته، ففي حياته كان يبتعد عن الأضواء ولا يحب إثارة الضوضاء حول نفسه، وربما لم يشعر أناس كثير بالحيز الذي كان يشغله إلا بعد وفاته حين شعروا بالفراغ الذي تركه وقد أثبت غيابه - رحمة الله عليه ورضوانه - أن له حضوراً في أذهان الناس ومحبة في قلوبهم بشكل لم يسبقه إليه كثير من معاصريه في وطنه، فبعد وفاته انهمرت الأقلام دموعاً على ورق الصحف والمجلات تبكيه وتعدد مناقبه وتشيد بحسن خلقه.
|
كانت إنسانيته وراء زهده الشديد في حياته في نشر كل ما يكتبه الأمر الذي يجعل النقاد يصفونه بأنه مقل في الكتابة، وهذا غير صحيح فما تركه عبدالعزيز الرفاعي مخطوطاً بعد وفاته قد يصل تقريباً إلى ضعف ما نشره في حياته، وقد تعهدت أسرته بنشر هذه الأعمال الصادقة، فحملها طوال حياته ولم يحمله، وأصرت أسرته من بعده على حملها حتى لا ينطفئ مصباح أشعله عبدالعزيز الرفاعي في حياته في سبيل إضاءة النور للآخرين.
|
|