لا جدال حول تأثير البيئة الصحراوية وندرة مواردها على ثقافتنا وعلى منظومة القيم والمفاهيم وطرق التفكير والتعامل مع الآخر.. ولا جدال أيضاً أن الطفرة الاقتصادية كانت كبيرة وسريعة بحيث لم تُمَكِّن المجتمع السعودي من أن يطور ثقافته تدريجياً.. وهو ما أوجد فجوة ثقافية كبيرة بين أفراد المجتمع وبين الواقع الذي يعيشونه.. حيث توافرت كافة منتجات الحضارة المادية وإمكانية التواصل مع المجتمعات الأخرى بشكل مباشر كالسفر أو غير مباشر من خلال الفضائيات والإنترنت.
ومع ذلك فإن مؤسساتنا الإعلامية والثقافية لم تلعب الدور المنتظر منها في معالجة هذه الفجوة الثقافية بأسرع وقت ممكن.. فهي لم تبذل جهداً مقدراً من خلال الدراسات والبحوث للتعرف على مساحات هذه الفجوة مثل: ثقافة الحوار.. الثقافة العدلية.. الثقافة الصحية.. الثقافة العلمية.. الثقافة المرورية.. الثقافة الإدارية.. إلى غير ذلك من المساحات الثقافية الهامة والحيوية في حياتنا والتي لازال ضعف مستوى إدراكنا لها يشكل عائقاً كبيراً أمام التنمية في جميع مجالاتها.. بل إنها تكلفنا الكثير من الجهد والوقت والمال لمعالجة إفرازاتها السلبية من سلوكيات وتصرفات لا مسؤولة.. وبالتالي فإن مستوى تعاملها مع هذه المشاكل الثقافية في كثير من الأحيان يكون سطحياً وعشوائياً ومشتتاً ودون المأمول.. عوضاً عن أن يكون جهداً عميقاً مخططاً تراكمياً يرتقي لمستوى الوضع القائم وإفرازاته.
الوسائل الإعلامية اتصالها بالمتلقي مباشر فوري وانتشارها أفقي.. وخطابها عاطفي وتأثيرها سريع وأثرها تراكمي إذا كان في مسار محدد وفق رؤية واضحة.. ولاشك أن الوسائل الإعلامية تعتبر من أهم الوسائل التي تحرك الجموع لتأثيرها الجمعي الكبير خاصة إذا كانت ذات سمعة ومصداقية.. أما المؤسسات الثقافية فهي تستهدف النخبة الباحثة عن المزيد من المعلومات والمعارف والراغبة بالمزيد من الخبرات المتخصصة العميقة.. لذلك فتأثيرها مقيم يتجاوز الاتصال الفوري بالمتلقين إلى التأثير المتراكم عبر الأجيال بسبب انتشارها العمودي وخطابها العقلي.. وهو ما يجعلهما أداتين فاعلتين بشكل بالغ إذا تكاملتا في معالجة الاتجاهات الثقافية في المساحات الثقافية إذا أحسن استخدامهما وفق رؤية محددة.
وهذه الرؤية حسب اعتقادي تستدعي تعاوناً كبيراً بين هاتين الأداتين من جهة وبين أجهزتنا الحكومية ومؤسساتنا الخاصة من جهة أخرى.. على اعتبار أنهما لا يمكن أن يحققا أهدافهما بتقديم الخدمات والمنتجات فقط دون أن يوازي ذلك ضخ فكري يعيد تشكيل الوعي حيال تلك الخدمات والمنتجات.. وقد أثبتت الدراسات أن الكثير من المشاكل التي تواجه الأجهزة الحكومية والمؤسسات الخاصة يتم معالجتها خارج دائرة هذه الجهات من خلال معالجة ثقافية تراكمت بتكاتف عدة أطراف ذات علاقة مباشرة وغير مباشرة بتلك المشاكل.. فعلى سبيل المثال يمكن معالجة مشكلة المرور في بلادنا من خلال معالجة منظومة القيم والمفاهيم الأخلاقية التي يمكن للمؤسسات الإعلامية والثقافية المساهمة بالدور الكبير في تحقيقها.. وهو ما سينعكس إيجاباً على أخلاقيات القيادة والتعامل مع الطريق ومستخدميه مما سيحل الكثير من المشاكل التي تواجه المرور في بلادنا.. وما يترتب على ذلك من وفيات ومصابين.
لقد حان الوقت حتى تتجاوز مؤسساتنا الإعلامية والثقافية العمل اليومي الروتيني المبعثر لتحقيق الأهداف الضيقة إلى المشاركة في صناعة مواطن سعودي عالمي القيم والمفاهيم قادر على التعامل مع نفسه وطاقاته ومع الآخرين بما يعزز مكانة وسمعة بلادنا.