أرسيت قيم النظافة في المدينة المنورة منذ زمن طويل، وقد كانت من التقاليد التي يحافظ عليها الجميع، الرجال والنساء والأطفال، ففي المدارس كان هناك أسبوع النظافة، وليس يوماً واحداً فقط، قبل أيام من هذا الأسبوع يتم تحضير جرادل الماء والمكانس، حيث يشرع التلاميذ بإشراف أساتذتهم في تنظيف المدرسة، وحالما تنتهي هذه المهمة يتم النزول لنظافة الأحياء المجاورة، وقد شاركت عندما كنت تلميذاً في مدرسة العلوم الشرعية في ممارسة هذه العادة النبيلة التي تغرس في الطفل أو التلميذ حب النظافة في المنزل والشارع والفصل وفي الملبس والمأكل وفي السلوك أيضاً، فهناك أيضاً سلوك نظيف وسلوك قذر!
وفي المنزل كانت السيدة المدينية تحرص على عدم دخول الأبناء أو الزوار إلى المجلس أو الغرف بالأحذية، وهي تغسل أرض الدار يومياً وتنشر السجاد والأغطية في الشمس لتخليصها من الجراثيم أولاً بأول، وهي تقوم برش مدخل الدار بالماء لكسر حدة الغبار، وفي كل بيت كانت هناك بئر تنزح منها الماء، وهو ماء هماج، فقد كانت المياه العذبة قليلة ولها قصبات أو آبار في كل حارة، إضافة لقصبات أو آبار مركزية يستخدمها سقاة الماء في التوصيل للمنازل بواسطة الزفة (إناءين يربطان بعصاه) أو القرب، وكانت بعض المنازل تتفق مع السقاء لتوريد حاجة المنزل من المياه العذبة، وعادة لا تلجأ للسقا إلا الأسر الموسرة، أما الأسر العادية فإن المرأة تقوم بهذه المهمة في الأوقات التي تخلو فيها برحة الحارة أو الزقاق من الرجال، هذا الماء العزيز كان يحفظ ويستخدم بطريقة حضارية، ويستخدم الماء المالح أو الهماج في النظافة!
وفي الأسواق حيث الأرض ترابية، يقوم أصحاب المحلات، أو من ينوب عنهم من الصبيان أو السقائين بالرش أمام المحلات غالباً في فترة الظهيرة، وفي كل دكان أو محل هناك مصائد للقضاء على القوارض والآفات أولاً بأول، أما المخلفات النادرة فقد كان يتم تدويرها والاستفادة منها، فالنوى يتم طحنه وتخميره ليكون علفاً للحيوانات، والخوص يتم تجفيفه وبيعه على النساء اللاتي يقضين بعض أوقاتهن في عمل العديد من الأشكال الخصفية مثل: المكانس، المراوح، السفر، القفف، حتى الزجاج عندما ينكسر هناك من يقوم بترميمه، هذه الأشياء البسيطة ساهمت في الحفاظ على البيئة نظيفة وخالية من الأمراض التي تنتج من تراكم الفوارغ أو المخلفات.
ولم يكن في المدينة أي لون من الأبنية أو الطرق التي قد تضر بالبيئة أو تزيد في درجة الحرارة أو البرودة في المنازل، فالمنازل تبنى من الطوب والأحجار والطرقات وبالذات في الأزقة كانت ترصف بالحجارة السوداء المجلوبة من الحرار التي تطوق المدينة والسقوف كلها كانت من الخشب، هذه الخامات ساهمت في التخفيف من الآثار الصحية التي قد تتعرض لها المدينة، كنتيجة طبيعية لقسوة طقسها صيفاً وشتاء.
وقد رصد العالم الدمشقي عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني الشهير بالنابلسي خلال رحلته إلى الحجاز العديد من المظاهر في المدينة المنورة، وسجلها في كتابه (الحقيقة والمجاز) ومن هذه المظاهر عادة سنوية اسمها (ليلة الكنيس) ففي السابع عشر من ذي القعدة، يأتي أهل المدينة إلى الحرم في زي بهي جديد فيجلسون في الصفوف كل حسب مقامه من الأعيان والعلماء، ثم يصعد إلى سطح الحرم شيخ الحرم والقاضي ومعهم خدام الحرم والطواشية (الاغوات) يحملون المكانس ينظفون بها سطح الحرم والقبة وترى الأطفال يترددون في ساحة الحرم يصيحون بأعلى أصواتهم (العادة يا سادة!) فيرمون لهم من على السطح ما يحملونه معهم من كعك وبندق وزبيب وغيره، وهم يلقطونه في فرح وسرور، ثم بعد ذلك ينزلون لتنكيس الحجرة الشريفة، ثم بعد ذلك يذهبون للتنزه في المزارع ولا يعودون إلا عند العشاء (مجلة الحج والعمرة - العدد 3 ربيع الأول عام 1430هـ) هذا اليوم كان يشبه العيد، حيث يتم الاستعداد له من بداية ذي القعدة بتصنيع المكانس وجمعها في بيت أحد الطواشية وهم خدام الحجرة النبوية الشريفة في جو احتفالي وهو - أي الخادم - يظهر الفرح والسرور بهذه المناسبة فيصنع وليمة لذلك يدعو لها أحبابه وأصدقاءه!
وفي غير هذه المناسبة كان بعض من أعيان المدينة وعلمائها يقومون في أوقات متفاوتة بدخول المسجد النبوي وكنسه وتنظيفه خصوصاً بعد صلاة العشاء..
لكأن نظافة ورقة وهدوء أهل المدينة انطلقت من هنا، من المسجد، المسجد النبوي تحديداً، بنظافته الدائمة وعبق العطر الذي يلف أركانه وجنباته وأعمدته وتهويته الراقية وقبل ذلك وبعده هيبة سيد الخلق، عليه الصلاة والسلام.
فاكس 012054137