Al Jazirah NewsPaper Monday  13/04/2009 G Issue 13346
الأثنين 17 ربيع الثاني 1430   العدد  13346
الرئة الثالثة
الابتعاث إلى الخارج.. نعمة أم نقمة!
عبدالرحمن بن محمد السدحان

 

قلتُ وكتبتُ أكثر من مرة أشيدُ بفترة الدراسة الجامعية في الخارج، وفي أمريكا خاصة، وذلك بالنسبة لمن يتعاملُ مع هذه المرحلة من العمر بإيجابيةٍ وتفاؤلٍ وحزم، مع توفّر القدرات التي تمكّن صاحبها من إنجاز ما وعد به نفسه أو ما هو متوقع منه، وقد وصفتُ تلك المرحلة المفصلية بأنها تجربة (ميلاد جديد) لصاحبها متى أثمرت نتائجها المرجوة، فكراً وتحصيلاً وتعاملاً سوياً مع معطيات الحياة، عسيرها ويسيرها. فهي ليست فترة (ضخ معلومات) في ذهن الطالب فحسب، بل هي إلى جانب ذلك فرصة (تحوّل) نفسي وإدراكي ووجداني له، ولذا يأتي (استثمارها) لتحقيق تلك الإيجابيات على رأس أولويّات الطالب كي يعود إلى وطنه بزادٍ معرفيّ ونفسيّ وأخلاقيّ يساعده على بلوغ ما يتمنَّاه أو يُرجى منه!

**

* لذا، لا أغادرُ الحقيقةَ إذا قلتُ إن لتجربة الدراسة الجامعية في أمريكا وسواها من أرض الله مساحةً أثيرةً في نفسي لا تغرب عنها شمس الذاكرة، ولا يُغادرُها قمرُ الحنين، والذين أمّوا تلك الديار البعيدة من أبناء هذه البلاد لغرض الدراسة عبر العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين عادوا منها أصنافاً من البشر:

- منهم من أفلح فلاحاً تخطّى به الصعاب نحو العُلا.

- ومنهم من تردّى ولازمته تبعات ذلك في الغربة وبعد العودة إلى الوطن.

- ومنهم من عاد بذاكرة (معلبة) من معلومات وانطباعات سرعان ما محتها رياح الزمن.. بلا أثر ولا تأثير!

**

* وبعبارة أكثر تحديداً.. من المبتعثين من لم تتجاوز به تجربتُه في العالم الجديد جُدران مأواه، والدرب الذي يسلكه إلى جامعته وقاعة الدرس التي يحقن فيها ذاكرته بما حوته الكتب المقررة، وهو يتلقاه بصمت.. بلا سؤال ولا تساؤل ولا اعتراض، فنال من العلم واللغة ما يحرز به شهادة ما.. وعاد إلى الوطن (عذريَّ) الذهن والوجدان، وسرعان ما أدركته (عوامل التعرية الاجتماعية والأسرية) لتطمس معالم شخصيته قولاً وعملاً.

**

* وهناك مبتعث آخر فقدَ توازنه في العالم الجديد منذ اللحظة الأولى انبهاراً بما استقبلته حواسه الخمس، فمنح الدراسة من نفسه حداً أدنى: وقتاً واهتماماً وجهداً، وراح يتعامل ب(بوهيمية) ظاهرة أو مستترة مع المواقف والأشخاص بهدف حيناً.. وبلا وعي أحياناً، وقد يصاحب ذلك تعثُّر في الدراسة، فيقفز إلى هذه الكلية أو تلك، مستفيداً من (مرونة) التعليم الجامعي في أمريكا، ثم يفوز في النهاية بشهادة ما قبل أن يحزم حقائبه عائداً إلى وطنه مشدوهاً بما رأى وسمع وذاق من لذات الحس، وبرصيد متواضع من اللغة ومن الفهم والاستيعاب لمفردات الحياة هناك، وقد تقترن عودته إلى الوطن ب(حواء) شقراء أو سمراء، تلخّص حصاد (ركضه الاجتماعي) في ديار الغربة، وليضع أهله ورفاقه.. و(فتاة من الوطن) ربما كانت تترقّب عودته.. أمام حتمية (الأمر الواقع)!

**

* وهناك صنف ثالث من المبتعثين منحه الله نعمة التوازن عقلاً وبصيرةً ووجداناً، لم يفرّط في واجبات المهمة الشريفة التي شدّ الرحال من أجلها، فكان التفوّق الدراسي همَّه وغايته، لكنه لم ينس في الوقت ذاته نصيبه من زاد الثقافة ومتعة الخاطر البريئة، وعاش تجربةً سويةً مع مصادر الإشباع لهذا وذاك، متيحاً لنفسه فرصة (التعلُّم) بمفهوم أرحب وأشمل، وامتصاص المفيد من مخرجات الثقافة المحلية دون أن تهتز في نفسه هوية الولاء لقيمه وجذوره، أو تتعثّر في عزمه آلية الإنجاز لمهمته، ففاز بالنعيمين: تفوق في الدراسة مكّنه من بلوغ المراد، وحصاد من المعرفة والثقافة والخبرة منحته شفافيةً وانفتاحاً حيال نفسه ومن حوله.

**

وبعد..،

* فتعزيزاً لمغزى عنوان هذا الحديث، أقول إنَّ تجربةَ الابتعاث إلى الخارج إذا قِيسَتْ بنتائجها لا تعدو أن تكون إمّا نعمةً لصاحبها أو نقمةً عليه، فالذين امتطوا قطار الغربة إلى أرض بعيدة.. كأمريكا، طلباً للعلم وعادوا منها سالمي العقل والوجدان، وقد تزودوا بزاد العلم والخبرة، و(ساحوا) بعقولهم وأفئدتهم في مجاهل التجربة الحياتية المعقدة هناك، دون أن تعشى أبصارهم أو تختلَّ بصائرهم.. أو تنحرف ثوابتهم، فأولئك هم الفائزون. أما الذين سلكوا الدرب نفسه وعادوا إلى (رحم) مجتمعهم كما بدأوا أول مرة بلا علم ولا خبرة ولا بصيرة، فليس لهم منّي سوى العزاء وكل الدعاء!




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد