Al Jazirah NewsPaper Monday  13/04/2009 G Issue 13346
الأثنين 17 ربيع الثاني 1430   العدد  13346

الجائزة وإنجازات رائدة - 3 -
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

ليست مواصلة الحديث عن جائزة الملك فيصل العالمية والإنجازات الرائدة للفائزين والفائزات بها هادفة إلى نوع من التفاخر، بل الهدف الأكبر منها هو التحدُّث بنعمة الله، الذي لا تحصى نعمه ولا تعد..

ومن هذه النعم الكبرى أن وفَّق أبناء الملك فيصل وبناته بإنشائهم مؤسسة خيرية باسم والدهم، انطلاقاً من مفهوم مبني على أساس (أن عظمة الأمم لا تقاس بما تملكه من وسائل الحضارة المادية، وإنما تقاس بمواقفها الإنسانية من أعمال الخير والبر.. وأن مجد الأفراد تصنعه أعمالهم العظيمة الهادفة إلى خدمة عقيدتهم وخير أمتهم وبلادهم والإنسانية كلها).

ومنذ انطلاقة تلك المؤسسة الخيرية - النعمة الكبرى - التي وفق الله إليها أولاد ذلك الملك الذي:

لم تثنه الأحداث عن تصميمه

يوماً ولم يأنف عسى أو ربما

عام 1396هـ وهي تسير سيراً رشداً حتى بلغت ما بلغته من تقدُّم تتجلَّى سماته في جوانب متعددة، ومن هذه الجوانب جانب خيري ذو صبغة اجتماعية تنموية أنجز داخل الوطن وخارجه، ويحتاج وحده أن يوفى حقه من الحديث عنه، ومن هذه الجوانب جانب يتعلَّق بتنمية الفرد المعرفية والتربوية، التي هي الأساس الأقوى لنهضة أيَّ أمة. ويتضح هذا الجانب بجلاء في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وفي مدارس الملك فيصل وجامعة الفيصل.

والحديث هنا عن جانب من تلك الجوانب المتعددة لمؤسسة الملك فيصل الخيرية، وهو جائزة الملك فيصل العالمية، التي بلغت العام الحادي والثلاثين من بداية منحها، ولما وصلت إليه من مكانة أصبحت مصنفة - وفق تصنيف المؤتمر الدولي للجوائز المتميزة واحدة من أكبر الجوائز رفعة في العالم؛ وذلك لما حقَّقه فائزون رواد وفائزات رائدات بها من إنجازات في المجالات التي نالوها ونلنها بها، ولما حصلوا وحصلن عليه من تكريم عال وجوائز رفيعة المستوى بعد نيل تلك الجائزة.

ولقد أشير في الحلقة الأولى من هذا الحديث عن جائزة الملك فيصل إلى أنه قد فاز بها حتى الآن، في فروعها الخمسة، مئتان وفائز واحد من أربعين دولة بما في ذلك جهات، أو هيئات، علمية أو خيرية، لاسيما في فرع خدمة الإسلام، كما أشير إلى دور المرأة في الجائزة، محكّمة، ومشاركة في لجان الاختيار، وفائزة، وتحدّث بشيء من التفصيل عن فائزين في مجال الطب لسببين: الأول أن الفائزات بها في مجال اللغة العربية والأدب معروفات بدرجة لا بأس بها - إن لم يقل جيدة - للقراء العرب، رجالاً ونساءً، وأشهرهن عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، والسبب الثاني أن الفائزين المتحدَّث عنهما، وهما البروفيسورة جانيت راولي، الأمريكية الجنسية، والبروفيسورة فرانسوا سنوسي العربية الأصل الفرنسية الجنسية، قد نالت كل منهما جوائز رفيعة جداً بعد نيلها جائزة الملك فيصل العالمية تقديراً للعمل الذي سبق أن قدَّرته هذه الجائزة، فقد نالت الأولى من بين ما نالت الميدالية الوطنية للعلوم، وهي أرفع جائزة علمية في أمريكا يسمِّيها البعض نوبل الأمريكية، ويسلِّمها الأمريكي نفسه للفائزين بها في حفل كبير يقام في البيت الأبيض، إضافة إلى نيلها عدداً من الأوسمة ودرجات الدكتوراه الفخرية، ونالت الثانية، فرانسوا سنوسي، من بين ما نالت أكثر من عشر جوائز قومية وعالمية، وكرِّمت - عام 2006م- بوضع اسمها في قائمة المشهورات في المتحف العالمي لرائدات العلوم والتقنية في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي العام الماضي منحت جائزة نوبل في مجال الطب مع زميلها في الإنجاز البحثي البروفيسور مونتانييه، وذلك على العمل الذي منحا عليه جائزة الملك فيصل العالمية في الطب، عام 1988م، وهو اكتشاف الفيروس المسبِّب لمرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز). وإضافة إلى مواصلتها بحوثها لتطوير لقاح للتحصين ضد ذلك المرض نذرت حياتها لمساعدة الدول الفقيرة على التقليل من مخاطره.

وفي الحلقة الثانية كان الحديث عن الذين فازوا بجائزة الملك فيصل العالمية هذا العام، وقد منحت في فرع خدمة الإسلام للجمعية الشرعية الرئيسة لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية في مصر، وذلك لما قامت - وتقوم- به من أعمال جليلة منذ إنشائها قبل مئة عام، ترسيخاً لمفهوم الدعوة الخالصة لله، ومحاربة للبدع والخرافات، وإسهاماً في مساعدة من يحتاجون إلى مساعدة معيشية وصحية وتعليمية، ومنحت الجائزة في فرع الدراسات الإسلامية للبروفيسور عبدالسلام الشدادي من المغرب لتاريخه الحافل بالعطاء الفكري، تأليفاً وتحقيقاً وترجمة في ميدان الفكر العمراني البشري، ومنحت في فرع الطب للبروفيسور رولاند ليفي من جامعة ستانفورد الأمريكية، كما منحت في فرع العلوم للبروفيسور ريتشارد فرند من جامعة كيمبرج البريطانية والبروفيسور رشيد سنييف الروسي الجنسية مدير معهد ماكس بلانك لفيزياء الفلك في ألمانيا، والحديث عن هؤلاء العلماء الرواد الثلاثة أورد باختصار في الحلقة الثانية يمكن أن يرجع إليه من يريد معرفة بعض الشيء عن إنجازاتهم.

على أن مما تُحدِّث عنه باختصار في تلك الحلقة هو الفائز بالجائزة في فرع اللغة العربية والأدب، البروفيسور عبدالعزيز المانع، السعودي الجنسية، وكان تحقيق التراث الأدبي، شعراً ونثراً، موضوع الجائزة، وله تاريخه الحافل بالعطاء، إدارياً وعلمياً وتدريسياً، وعشقه للتحقيق بالذات عشق غير محدود المدى. ونتيجة لهذا العشق غير المحدود حقَّق أكثر من خمسة عشر عملاً من المؤلفات التراثية الأدبية، شعراً ونثراً، وكان للتراث المتعلَّق بأبي الطيب المتنبي النصيب الأوفى والأتم من بين تلك الأعمال، متعاملاً معه أكثر من عشرات سنوات.

ولم يقتصر إنتاج البروفيسور المانع العلمي المتقن على تحقيق المخطوطات ودراستها - وهو عمل مقدَّر كل التقدير من قبل الباحثين الجادين - بل امتد إلى كتابة بحوث لها قيمتها العلمية الرفيعة، وأذكر أنه قدَّم بحثاً عن الأعشى في ندوة عن الجزيرة العربية عام 1404هـ، وكان في طليعة المشاركين فيها البروفيسور عبدالله الطيب، العلامة المعروفة الفائز السابق، أيضاً، بجائزة الملك فيصل العالمية في الأدب - رحمه الله - رحمة واسعة، كما كان بينهم صديق الجميع الزميل الباحث الثبت الدكتور عبدالعزيز الهلالي، وفي إحدى جلسات تلك الندوة خطر ببالي أن ألقي بين الإخوة المشاركين الأبيات الآتية، مشيراً إلى هؤلاء الثلاثة العلماء:

رفَّت على متن السحابِ

روحٌ مجنَّحة الرغابِ

تهفو إلى مُتع الحيا

ة كما أحن إلى شبابي

أصغت إلى جَدَلٍ تردَّد

بين أفواه الصحاب

هذا يميل إلى الهدوء

وذاك ينذر بالحِراب

والطيِّب المشهور في

التعليق يغرف من عباب

ينساب من شفتيه دُرُّ

القول كالعسل المذاب

فإذا بها من غابر الأزمان

ترمي بالحجاب

وأبو بصير يحتسي

ما لذَّ من صافي الشراب(1)

ما زال في مهراسه

صفراء تنبض بالحُباب

لكنه ينوي المسير

فأين سابقة الركاب

لم تغتمض عيناه من

وقع المصاب على المصاب

وهريرة الغرَّاء فرقتها

تلوِّح باقتراب

والمانع العفريت لم

يدع الرواة بلا عقاب

أسقاهم السمَّ الزعاف

وسامهم سوء العذاب

من ذلك الراوي الذي

عبر الحدود بلا عقاب

كم مال من (ميل) وكم

ألقى السؤال بلا جواب(2)

حتى غدت كل الروايات

القديمة كالسراب

والرافضون لما يقول

ينالهم طرف الشهاب

يا ليت مزوده الحديد

أفاد من لطف الهلابي

ومما زاد من البهجة بمنح جائزة الملك فيصل العالمية لأخي الجميع وعاشق البحث والتحقيق، البروفيسور عبدالعزيز المانع، ما حظي به من تقدير وحفاوة بعد ذلك المنح على أيدي جهات وطنية علمية وأدبية وثقافية، ومن هذه الجهات جامعة الملك سعود بقيادة ربَّان سفينة إدارتها، المتوثِّب حماسة للرقي بها، معالي الدكتور عبدالله العثمان، إذ بادر إلى إقامة حفل بهيج احتفاء به، وأنشأ كرسي بحث باسمه، إضافة إلى منحه وساماً رفيعاً، وفي الليلة قبل البارحة احتفت به كليته (كلية الآداب بالجامعة)، مفتخرة برائد من روَّادها، وحق لها الافتخار به.

وفي ضوء ذلك كله أليس من حق كاتب هذه السطور أن يحمد الله ويشكره على أن بوادر لاحت في الأفق مبشِّرة بأن زامر الحي قد يطرب وينتشي بإنشاده؟

(1) أبو بصير: الأعشى.

(2) كان الدكتور المانع يستعمل كلمة: (أميل) إلى كذا في بحثه.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد