ما زالت بعض فئات المجتمع السعودي تقف موقفاً سلبياً من الكتابة والقراءة خارج المنهج، على الرغم من أن ظهور الدين الإسلامي في حاضرة العرب كان إيذاناً بتحول المجتمع من تداول الثقافة الشفهية المتمثلة في الشعر إلى التدوين من خلال الثقافة المكتوبة، وهي مرحلة كان لها عظيم الأثر على المجتمع العربي، فبسببها تم تدوين النصوص، وتطوير قواعد اللغة العربية لتحتوي هذا التغيير الجذري، ومن خلالها صعدت ثقافة العرب إلى أوجها خلال قرون، ووصلت إلى أقاصي العالم، وصار نصف العالم آنذاك يتحدث ويكتب باللغة العربية.
عادت هيمنة الثقافة الشفهية مرة أخرى إلى الجزيرة العرب، وصار الشعر الموزون هو الناقل للأخبار والحافظ تاريخ العرب في الجزيرة، لكن مرحلة تجديد الدعوة الدينية التي مرت فيها الجزيرة العربية أعادت للقراءة والكتابة دورها الرئيسي، وظهرت الكتب الدينية، وسير تاريخ أعلام وقبائل المنطقة، وقد مرت التحول الجديد في مراحل صعبة للغاية، فسكان الجزيرة كانوا يعانون من تخلف وأمية عالية النسبة، وكانت أيضاً فترات الاستقرار السياسي في الجزيرة العربي متقطعة، ولم تعرف صفة الاستمرار إلا منذ القرن الماضي.
لكن الموقف من الكتابة خارج المنهج استمر سلبياً، وواجه بعض الكتَّاب معاناة واضطهاداً بسبب كتابتهم التي ربما لا تتفق مع المنهج الرسمي واتجاهاته الدينية المتشددة، ومع ظهور تقنية الإنترنت في العقود حدثت النقلة الرئيسية في تاريخ الكتابة في المجتمع، وظهرت ألوان الطيف بوضوح بالغ في سماء عقل إنسان الجزيرة الذي أتعبته سنين الجفاف البيئي والذهني، وتعددت الآراء، وصار الجيل الجديد أفضل نوعياً من سابقيه في الموقف من الكتابة والتعبير عن التجربة الذاتية.
ما زال الاجتهاد الديني يرى في وجوب التزام القراءة والكتابة بتعاليم الدين، وأن أولئك الذين يكتبون سيرهم الذاتية وتجاربهم المنحرفة عن الخط العام يدعون للرذيلة وإفساد الناس، ويجب محاربتهم والتشهير بمخالفاتهم الدينية، وهي بلا شك رؤية يواجهها تحدياً مقابلاً من الكتَّاب الجدد، فالثقافة الإنسانية من جهة أخرى تطالب بالبوح عن المكبوت، وبفضح المستور في حياة الإنسان ومغامراته، وهناك من الكتَّاب من نال شهرة عالمية بسبب الكتابة ببوح تام، وتم ترجمة روايته إلى مختلف اللغات لأنه كتب بحرية مطلقة عن حياته بدون ساتر أخلاقي، وخير مثال على ذلك الأديب محمد شكري رحمه الله، والرواية كانت الخبز الحافي، التي تناول فيها المجتمع المغربي من خلال سيرته الذاتية بشفافية ممزوجة بالتراجيديا والبؤس الاجتماعي غير المعهود، وبالبوح الشفاف عن أمور يصعب على الإنسان العادي الحديث عنها، فما بالك بتوثيقها من خلال رواية سيرة ذاتية.
كثرت في العقد الأخير محاولات بعض الكتاب السعوديين في كتابة الرواية، وتناول بعضهم الممارسة خارج حدود الحلال، وتحدثوا عن مغامرات اجتماعية وسياسية وثقافية تدخل في المحرَم الديني، ويأتي تجاوز الممنوع والحديث في الحرام بالشهرة السريعة للمؤلف من أقصر الطرق، ولا يمكن أن تخلو هذه التجارب من البوح الذاتي على طريقة محمد شكري، على الرغم من إنكار بعضهم لأبعاد تجربته الإنسانية في الرواية، وهي بذلك تعتبر تجارب تفتقر لشجاعة الرأي، ولا أعلم لماذا ينكر بعضهم الإقرار بالكتابة عن تجاربهم الذاتية، وهل السبب هو الخوف من المجتمع، الذي يرى فيها سيرة فاسدة، وشهادة وإقرارا من الكاتب على فساده.. هذا هو ربما لب المفارقة في الموقف من الكتابة خارج المنهج بيننا والغرب، والذي يجد في البوح إبداعاً إنسانياً يخلص المجتمع من أزماته النفسية والحضارية، بينما نرى فيها الحرام الذي يجب الستر عليه.
الكتابة والقراءة غذاء رئيسي في مرحلة النمو والتطور للمجتمع، وهي حق مشروع لأي إنسان مهما كان وضعه الاجتماعي وخلفيته التعليمية، وسيكون المجتمع في أفضل حال عندما يصل المجتمع إلى قناعة تسمح بكتابة الناس من مختلف الاتجاهات والطبقات لتجاربهم في الحياة من خلال نافذة الإبداع، والإنسان عليه أن يبحث عن ذاته ونجاحاته وإخفاقاته في الحياة عبر الحروف التي من خلالها يمد جسوراً جديدة في طريق الرحلة إلى الذات مع الأجيال القادمة.