إن البحث عن الحقيقة التاريخية مطلب مستمر منذ القدم.. ومثلما هو مطلب مستمر، فإن الحقيقة التاريخية التامة مستحيلة كذلك، فتجد الباحث يبحث عن أجزاء تلك الصورة لتكتمل في النهاية، أو حتى يستطيع أن يبدأ غيره من حيث انتهى، فتجده يجمع بين المصادر التي تخص موضوع بحثه ويقارن بينها حتى يقدم رؤية واضحة عن ذلك البحث.. والرواية الشفهية من الأدوات المعمول بها في إثبات تلك الحقائق رغم أنها لا ترقى إلى مستوى الوثيقة المكتوبة لأنها تعتمد على الذاكرة التي لا يمكن الاعتماد عليها كلياً لما يعتريها من نسيان وخلط في الصورة والأحداث.. لكن يمكن الاعتماد عليها في توثيق تاريخنا المحلي الذي قلَّ ما نجد الوثائق عنه أو المصادر المكتوبة غير الرواية الشفهية.
والراوي له دور بارز في سلامة الرواية من المحاذير التي تجعل من الرواية ضعيفة أو عديمة الفائدة والمثل يقول: (وما آفة الأخبار إلا رواتها).. فلا بد أن يتميز الراوي بالجرأة على قول الحقائق وأن يبدي وجهة نظره مع أن تكون لديه الحرية، وأن لا يتبدل كلامه مهما تقدمت السنون وتكرر ذكر الأحداث، ويجب عليه أن يبتعد عن المبالغات ومزج الخيال بالواقع.. فهناك أخبار يرويها الرواة ولا يمكن تصديقها.
والباحث هو من تحمَّل المشاق من أجل الحصول على المعلومة ولا يكاد أحد يعي ما يعانيه إلا القلة.. ومثلما كان للراوي دور في سلامة الرواية فكذلك دور الباحث الذي لا يقل عنه، فعليه أن يحذر من تصديق كل ما يُذكر فإن الرواية الشفهية لا تكاد تخلو من المبالغة في الأحداث وتضخيم ذلك الحدث وإن سلمت منه.. وهذا نادراً فإنها لن تخلو من مزج الخيال بالواقع، وهناك شرط مهم وهو متى ما تعارض مصدر تاريخي مكتوب ضد الرواية الشفهية فهذا يضعف الرواية الشفهية، وقد يبطل دورها في إثبات تلك الحقيقة، ومتى ما جُرِح في عدالة الراوي أو الناقل أو الشاهد فهذا سبب كافٍ في عدم الاعتماد على رواية ذلك الراوي، وعلى الباحث كذلك أن يفرق بين الراوي الذي عاصر الأحداث والراوي الناقل.. ولا بد أن يملك مهارات يستطيع بها طرح الأسئلة واستخراج ما يستطيع استنباطه من ذاكرة الراوي وكيفية التعامل معها حتى تنجح مهمته في الحصول على المعلومة وأن يختار الأسئلة والمواضيع التي لا تستفز الراوي أو الشاهد، وعليه إذا كان من مجتمع غير مجتمع الراوي أن يتمتع بمخزون معرفي بالعادات والتقاليد الخاصة بمجتمع الراوي وأن يتقن لهجة الراوي وعليه أن يتعامل مع المعلومات بدون ميل إلى رأي ضد رأي آخر بهواه وحسب ما ترتاح له نفسه حتى نستطيع في النهاية تقديم جزء من ذلك التاريخ الذي كاد أن يكون في المجهول، وأن نجد مكتبة للتاريخ الشفهي يمكن الاعتماد عليها في حفظ تاريخنا المحلي.
ويجب علينا أن لا ننسى الدور الذي قامت به دارة الملك عبدالعزيز وهو مشروع توثيق المصادر التاريخية.. ومن بين تلك المصادر الرواية الشفهية.. وكأن لسان حالها يقول: لا بد من استثمار الوقت لتوثيق الرواية الشفهية.. مؤمنين بأهميتها وأنها تزوِّد المؤرخين والباحثين بمعلومات جيدة.. وكذلك الدور الذي قامت به بعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية في العقود السابقة من اهتمامها بالرواية الشفهية التي كان يشرف عليها نخبة لن تنساهم الذاكرة.
سرحان بن مبارك الموينع