عندما أتابع الساعات التي تفردها قناة الجزيرة للصحفي العتيق (هيكل) (وهنا لن أقول برنامج هيكل لأن البرنامج التلفازي من المفترض أن يحوي جهداً إعلامياً وإخراجياً يتجاوز ثرثرة متصلة على مدى ساعات).
تلك الثرثرة تحاصرني بالكثير من التداعيات والأسئلة، ولنبدأ ما يتعلق منها بالمهنية الإعلامية
- فمن بدهيات العمل الإعلامي الحديث عموماً هو استثمار الصورة والحدث في بلورة طرح إعلامي جاد ومحترف، وجميع نظريات الإعلام الحديث تتفق على أهمية أن يكون توازن نسبي يعرف (مقداره ومدته) من هم في المهنة، حيث يوازن بين الصورة والكلمة المسموعة على أن تكون الغلبة للصورة في عصر ثقافة الصورة، ولم يعد المشاهد يميل إلى الخطاب الإلقائي المنبري الذي يشتت انتباه السامع في ظل خيارات جذابة متعددة ومنافسة بين المحطات.
ولكن حينما أطالع برنامج هيكل أشعر بأنني أطالع إحدى محطات دول أوروبا الشرقية في أوج الشيوعية وخلف الستار الحديدي حيث الخطاب الأحادي المكفن بأيدلوجية صارمة.
- المادة التي يقدمها هيكل تقوم في غالبها على استرجاع لبعض الأحداث السياسية والتاريخية التي مرت به (ولا أحد ينكر أسلوب هيكل الجذاب وأحاديثه المتدفقة) لكنه في غالبها يمتح من ذاكرته، والذاكرة دوما مخادعة ومخاتلة، ولا أدري لم لا يرافق أحاديث هيكل المنهمرة، عمل توثيقي من مصادر مختلفة سواء أشخاص شهدوا الأحداث أو كتبوا عنها أو أرخوا لها، أو أولئك اللذين يتقاطع رأيهم مع رأي هيكل (وهذا هو المهم), فكلما تنوعت مصادر المعلومة كان هناك عمل متكامل في شروطه المهنية، خاصة أن هيكل يتورط دوما بنبش قضايا إشكالية من التاريخ العربي الحديث، مسبباً أزمات دبلوماسية في الكثير من الدول العربية.
- الأحاديث تعرض ليلة الخميس التي هي عطلة نهاية الأسبوع والتي من المفترض أن يكون هناك نسبة عالية من المتابعين والمشاهدين، فهل الطرح السياسي المثقل بشعارات الخمسينات والستينات الذي يقدمه هيكل هو وحده من يستقطب المتابعين المشاهدين ويربطهم أمام الشاشة، ولطالما كان الطرح الشعاراتي فخاً يصطاد جمهور المشاهدين أو كما يقولون النظارة، لاسيما أنه صادر من شخصية إشكالية شهدت العديد من الأحداث.
- ساعات هيكل هي نموذج على الذهنية العربية التي تجيد صناعة أصنامها، وتضفي عليها هالات القداسة والبطولة، ومن ثم تظل تلتف حولها بالتهليل والتكبير مع تغييب كامل للحس النقدي والعقل القادر على الاشتباك مع المعلومة بصورة واعية غير منقادة أو مستلبة.