ربما الحاجة إلى الغربال القديم الذي كانت تصفي به الجدة نثار الطحين من عوالق الصدفة أو جوار الأوعية المصفوفة بعناية داخل الدكاكين الصغيرة العامرة بطلبات البيوت الأولى التي كان يعجن فيها الرغيف، وتمد فيها الموائد، ويتنافس الرجال على ألذ ما أعدت أيدي النساء، ربما هذا الغربال ببداءة صنعه هو حاجة الحياة الراهنة بأكثر من المنتجات المختلفة التي صنعت لتصفية الحنطة والحبوب وسواها من تلك المساحيق الوافدة والمستجدة والمصدرة بأوراق صغيرة ذات لغات ومواصفات لا يمكن أن تتعرّفها أولئك من نساء البيوت العامرة والآهلة بالدفء تلك التي لا تودع لقمة في فم حتى البهائم في الأحواش إلا وتكون معلومة لديهن خباياها وجزئياتها من الدهون والخضراوات والحبوب وكمية الماء ونوع البهارات وما أضيف إليها فجعل لونها أحمر أو أخضر أو مزيجاً منحها نكهاتها المغرية...
غرابيل الزمن الحديث على حداثتها ومهارات صنعها ودقة مسامها وسرعتها الفائقة في اختصار الوقت وتقديم العون عند أي حاجة لها، لم تعد صالحة للغربلة، وليست نموذجاً للقدوة.., فغرابيل القدماء كانت أمثلة تذهب ويتداولها الرواة تعلم الإنسان وتوغر في صدرهم معانيها ورمزية دلالاتها تلك التي تقول: إن تصفية النفوس تأتي قبل تصفية التروس، وأن ترس الساقية حين تتراكم فيه أملاح الماء يعطّل الدابة عن الحركة في جلب الماء، وأن تراب الأغبرة ونثار حجارة العابرين يؤثِّر في حركة مزاليج العربات المحمّلة بالإنسان وحمولاته على ظهور الحيوانات، وأن تصفية الأملاح وإزالة نثاره العالق بها يؤدي إلى تسريع حركة السواقي وسير الدواب، لكن الصدور التي تتراكم فيها حمولات الغش للآخرين، والعيون التي تعبأ مجالاتها بألوان داكنة عن المرأى الخارجي للنفوس، والألسنة المعمقة في وحل الألفاظ النابية في اغتياب الناس، كلها لم تجدِ في أمر تصفيتها غرابيل التطور التقني ولا مهارة تصنيعها، ربما لأن غرابيل القدماء كانت من صنع أيديهم وهي في متناولها قريبة منهم، متعايشة مع يومهم، أما غرابيل العصر فهي خارجة برفاهية عن المصانع البعيدة عن الرؤية المباشرة والناس استخدمت الآلات وجاءتها احتياجاتها من مواد الغذاء مغلفة خالية من الشوائب، واستخدموا كل وسيلة في خدمتهم استخداماً لا يمزجون فيه بين المواد وشعورهم لذا انفصلت مشاعرهم عن تمثّل أدواتهم، وبقي في الزمن فائق التطور ما يحتاج إلى غرابيل الأجداد لعرض القلوب والأذهان والألسنة والعيون عليها.