أفضى إليَّ بما في قلبه، وألْقى أمامي بهمومه الثقيلة، وآلام نفسه العليلة، شاب في العشرين من عمره، شطحت به أحلامُه، حتى طوَّحتْ به أوهامُه، وتحكّمت في قلبه آلامه، وأصبح كالطائر الجريح لا يقوى على الطيران، ولا يجد راحةً ولا أُنساً، ولا يعرف للسعادة طعماً، حينما حاولت الدخول إلى أعماق قلبه من خلال بعض الأسئلة التي طرحتها عليه، كان يبذل جهداً كبيراً للتغطية والتمويه، لم يكن قادراً على فتح منافذ قلبه الصغير، المشحون بالألم الكبير.
وبعد جهد جهيد انقشعت غمامة الحذر والممانعة، وانفتحت أمامي صفحة قلب أجهدته هموم الحياة، وهو في بداية الطريق.
إنها الدُّنيا، والنظر إليها، والتعلُّق بحبالها الواهية، شاب عشرينيٌّ نشأ في أسرة متوسطة الحال، تعيش الكفاف، ولا تملك بيتاً، ولا شيئاً من كماليات الحياة التي يتخوَّض فيها بعض أصدقائه ولا ينال منها شيئاً، شابٌ يرى بريق الحياة الزائف، ولا يجد أحداً يملأ روحه بما يسعدها ويزيل عنها غشاوة هذه الدنيا الفانية.
شاب يملك عقلاً وحسَّاً وفطرةً سليمة، ولكنَّ الإحساس بأنه على هامش الحياة المترفة مع عدم وجود توجيه من أهله أو أساتذته أو أصدقائه، جعله يغرق في هذه اللُّجَّة من الآلام.
قلت له: دّعْك من هذا البريق الزائف كلِّه، وقل لي: هل بدأتَ يومَك هذا بصلاة خاشعة؟ هل رسمت ملامح ساعاته ودقائقه بما أوصاك به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأذكار والأدعية التي تنشر الصفاء والنقاء في حياة كل مسلم يعطِّر بها صباحه؟؟ قال وقد وجَّه إليَّ عينين مفعمتين بالاهتمام: كلا، قلت له: المؤمن - بارك الله فيك - إذا أصبح صلَّى وذكر الله تعالى وقال: الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني، وردَّ إليَّ روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره، أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله ولا إله إلا الله، اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور.
هكذا يا بني يتصل قلب المؤمن المعمور بالله عز وجل، منطلقاً إلى الصواب، منساقاً إلى الحق والخير، وبهذا تكون سعادته، ويكون عطاؤه، فما يصدر منه إلا ما ينفع العباد والبلاد، لولا هذا التعلُّق بالله لمات الإنسان كمداً وغمَّاً، ولولا إمداد الله سبحانه وتعالى لقلب الإنسان المؤمن ما استمر نبضُه ولا جادت رئتاه بالشهيق والزفير النقيَّين السليمين.
دعك من الدنيا الزائفة فرسول الله صلى الله عليه وسلَّم أخبرنا بأنها لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها الكافر شربة ماء.
قال: وكيف أعيش؟ ومن أين لي بالمال الذي تقوم به حياتي؟
قلت له: ابدأ مع الله، وكن معه دائماً، وأزح عن نفسك هذا الركام الذي حجب عنك السعادة، واملأ قلبك بالشقاء، وتأكد أن هذه الدنيا التي أشقيت نفسك بالتفكير فيها ستأتيك طائعة منقادة، إنك إذا بقيت على حالتك هذه أتعبت قلبك وعطَّلت جوارحك عن العمل ولم يأتك من الدنيا إلاَّ ما كتب الله لك، الدنيا يا بنيَّ ذليلة حقيرة عند الإنسان الذي يعرف سرَّ وجوده في الحياة، ابدأ بما قلت لك، وسترى أن ما أهمَّك وأشقاكَ لا يساوي شيئاً أبداً، وسترى أنك قد وجدت من الدنيا ما لم تكن تتوقَّعْ وأنَّ ما يأتيك منها لن يكون كبيراً في نفسك، لأن يقينك بالله هو الأكبر.
إن هؤلاء اللاهثين وراء زينة الحياة الدنيا، المستسلمين للذائذها ورغباتها وبريقها الزائف هم أشقى الناس، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ الأكثرين في الدنيا هم الأقلُّون يوم القيامة، لأن الحساب هناك هو المقياس.
كن مع الله، ومرحباً بالدنيا إذا جاءتك حلالاً، وأمتعك الله متعة مباحة بما كتب لك منها، ولا تكن عبداً لها لأن العبودية لغير الله هي التي تجلب الشقاء الذي تعاني منه.
لقد أشعرتني ملامح وجه هذا الشاب أنَّه - بفضل الله - قد تجاوز خندق الوهم، ورأى نور الحقيقة.
إشارة:
كن مع الله وكفى، فمن كان معه شفى واشتفى