Al Jazirah NewsPaper Sunday  12/04/2009 G Issue 13345
الأحد 16 ربيع الثاني 1430   العدد  13345
هَوَسُ الجنس في الرواية السعودية من (شقة الحرية) إلى (شارع العطايف) 2-2
د. محمد بن عبدالله العوين

 

حين أخرج الكاتب المغربي الشهير محمد شكري سيرته الروائية (الخبز الحافي) عام 1982م في طبعتها الأولى أحدثت دوياً هائلاً في الوسط الثقافي والأدبي؛ وتلقفها القراء تهريباً وإخفاء تحت الثياب في ممرات الجمارك والمطارات وكأنها نوع من الحشيش أو المخدرات، وكنت من أوائل من قرأ هذا العمل الأدبي الخارق الخارج على النمط ..

والمدمر قوانين وقار الكتابة الأدبية وترفعها عن الدخول إلى القاع الاجتماعي الهابط وما ينطوي عليه في بعض البيئات العربية من توحش أخلاقي، وترفعها كذلك عن الدخول العميق إلى قاع الذات الساردة وما تقترفه من فعل قد يكون آثماً في الأعراف الاجتماعية، أو ما يتلجج في داخل تلك الذات من أفكار وخيالات وأحكام لا تبوح بها في حالة الوعي؛ وإنما تجد سبيلها إلى البوح والمكاشفة والانطلاق في تلك اللحظات الإبداعية المشعة غير الواعية بثقل القيود الاجتماعية، وقسوة سلطة الواقع، بل الواعية كل الوعي ببواطن أغوار عالم النفس الخفي المتقنع الغارب بعيداً في الخفاء والصمت والتواري والخشية والخواف والتلون والمجاملة والادعاء والتنبل والتسامي وتلبس أردية الخلق الفاضل في العرف الاجتماعي والمتواضع عليه من أخلاق وقيم.

هي تلك اللحظات السحرية الشغيفة النقية الشجاعة الخالدة التي لا يتوارى فيها الداخل عن الداخل، ولا الذات عن الذات؛ فتغدو ذات الكاتب وذات البطل المكتوب واحدة؛ هي هو، وهو هي؛ لا محل لمحاسبة ولا لانتقاد، ولا مكان لخشية من سلطات العيب أو النفي أو التفسيق أو الزيغ أو الخروج عن المتواضع عليه. ذلك الإبداع في التقاط خلجات (البطل) المكتوب بروح مقتحمة مغامرة جسوره من (البطل) الكاتب هو النص الخالد الذي نبتغيه، ونحفل به، ونقلده أكاليل الإعجاب، ونكيل له عبارات التمجيد والعرفان والثناء!

لقد عبر (محمد شكري) في خبزه الحافي حافة الجنون والقذف والاتهام والتنقيص إلى بر آخر فسيح، وعالم آخر مفتوح الفضاءات ليأتي من بعده ويأخذ ناصية التدوين ليكتب السيرة الروائية على أشكال وألوان، وبصيغ متعددة؛ منها الجسور، ومنها الخائف الوجل.

كان (شكري) مصادماً ووقحاً في عرف كثيرين؛ بيد أنه احتمل الصدمة الأولى؛ صدمة المواجهة ودهشة الاقتحام الأول؛ ولم نكن نحن آنذاك مهيئين لتجربة كتلك؛ كانت خشنة ومتوحشة ومصادمة، وكان اقتناء الرواية معيباً أو باعثاً على الخجل؛ بل كان طلبها من الأصدقاء يتم بهمس!!.

وبين (الخبز الحافي) و(شارع العطايف) ما يقرب من ثلاثة عقود؛ ابتدأ فيها مبدع العمل الأول شكل سيرة روائية جديدا ومختلفا بقاموس لغوي صريح ومكشوف؛ كان من الأولى تجاوز التجربة الأولى لشكري إلى إبداع جديد يرتقي عن تكرار نص التجربة الأولى بكل ما أثقل به من قاموس غير مألوف، ودخول عميق إلى القاع لم يكن معهودا من قبل عند السابقين من الرواة والقاصين.

كان لشكري فضل الريادة في تلبس الجرأة والبوح بنقائض ذاته؛ دون اختلاق شخوص آخرين لا ذنب لهم ليحملهم خطاياه وآثامه، ودون اضطرار إلى نحت أمكنة وبقاع لا وجود لها في الجغرافيا المنتجة للنص تملصاً من عقوبة قد يوقعها المجتمع على كاتب السيرة المخلَّقة المغتصبة المجمّعة المحمّلة ذواتاً أخرى بعيدة كل البعد عن (البطل) الحقيقي المستتر المتخفي المقسّم عنوة بين شخوص شارع العطايف الثلاثة (فحيج) وشنغافة، وسعندي!!

أبدع شكري (الخبز الحافي) في قالب سيرة روائية، وأتى من بعده طوال ثلاثين عاماً يكتبون سيرهم الذاتية في أشكال متعددة دون أن يصدقوا كل الصدق، أو يخلصوا كل الإخلاص، أو يتلبسوا الشجاعة كل التلبس ليقولوا بخيال الراوي السارد العليم المستبطن دقائق وتفاصيل الزمان والمكان وخلجات وهواجس المكتوب المدون بانثيال وتدفق وعفوية لا تخشى من انتساب مكان، أو التصاق اسم بطل؛ وهو ما ألوم وأقرع وأهجو من كتب (سيرته) الروائية التي يدعي أنها ليست سيرته، ومن سعى إلى التقاط ما يدل على أنها سيرته فسيبوء بالخسران؛ فجاءت الأعمال السيرية الروائية على هذا الصنيع الهجين المخلّط المتداخل كبعض أنواع الطيب الذي لا تعلمه من أي صنف هو؟ ولا يميّزك إن ادهنّت به، ولا يبقى له أثر عميق فيك أو حتى في من يقترب منك!.

جاءت أعمال كتاب عديدين سيريين خليطاً مهجناً وجباناً لا هي روايات فنقرؤها كذلك، ولا هي سير فنقرؤها كذلك أيضاً، ولا هي سير روائية بطلها ذات السارد والغارب في الخيال فتقرؤها كذلك؛ وإنما كان شفيعها الوحيد الذي تريد أن تتوسل به لاكتساب القبول والإعجاب والثناء إقحام (الجنس) بصور مختلفة، وصيغ متعددة، وبقاموس لغوي متفاوت في الخفاء والانكشاف؛ كما هي الحال في (شقة الحرية) أو في (أطياف الأزمة المهجورة) أو في (شارع العطايف)!.

وما يجيء من روايات لا تتقصد السيرة أو إيحاءاتها كما لدى كتاب وكاتبات (الواد والعم) و(الآخرون) و(طوق الطهارة) و(الحمام لا يطير في بريدة) وغيرها تنحو إلى توظيف تيمة الجنس تمليحاً أو تسويقاً أو استلذاذاً أو استجابة لخلب الظاهرة وإغراء الحضور؛ ولعل هذه الأسباب والدواعي تكون أخف وطأةً وأضعف تأثيراً من روايات السيرة وما ينضوي تحت لوائها من اقترافات إبداعية متمايزة، تروح بعيداً وتجيء قريباً من هذا المصطلح؛ لكنها في نهاية الأمر وبدون أن نغتصب من كاتب النص اعترافا صرحيا، أو حتى ننتظر منه نفياً صريحاً أيضاً هي سير ذاتية روائية جبانة، أو على حافة السيرة الذاتية المتوارية خلف الشخوص المنتحلة المخلّقة المدَّعى عليها!.

ولربما في كلمات رائد الرواية العربية الحديثة (نجيب محفوظ) ما يؤكد هذه الرؤية النقدية؛ فقد سألته عام 1409هـ عن ذاته في شخوص رواياته وأين تقع بينهم؛ فأجابني بأنه موجود في كل تلك الشخوص (انظر كتابي: مواجهات) ولكنه وعلى الرغم من تشتت وتوزع ذاته بين (خان الخليلي، وثرثرة فوق النيل، وميرمار، وزقاق المدق، وخمادة القط الأسود، وغيرها) لم نره مستسلماً لحلاوة السرد الذاتي، وإغراء التجربة المجردة؛ بل ارتفع بذاته عن أن تكون ملجمة خيال المبدع السارد المحايد المتمكن المراقب المتوجس المستبطن المتصرف، فأخذ يحبك حكاياته من علوٍّ بعيدٍ، ويتصرف بالشخوص كما هي، يسير معها حيث سارت، ويكون معها حيث تكون، فلا يتعمد الإبهار والحشو الجنسي الفج، ولا يستغل إلى النقل (الفوتغرافي) الغبي لما يحدث، ولا يدع أذنه ووعيه جاهزين لالتقاط حوار القاع وأحداث القاع؛ بل يمرر كل ما يصل إلى وعيه وإلى سمعه على معمله الإبداعي الخاص ليعيد صياغتها من جديد وليرتفع بها من الحكاية الفوتغرافية لما يحدث، إلى خلق عالم فني موازٍ للحدث المجرد، ولمنطق الشخوص ولغتها السوقية غير الفنية!

إن حشو الروايات السيرية بهذه الغثاثات الجنسية المفتعلة تحليق بها أن تكون نوعاً من أفلام الإغراء المؤقتة التي سرعان ما ينتهي بريقها بعد رؤيتها أول مرة!!.

لقد بدأ شكري المحاولة بجرأة، ولم يستطع مبدع آخر بعد التمكن من الكتابة الروائية السيرية، والارتفاع بها عن أخطاء التجربة الأولى؛ وهو وحده (محمد شكري) الذي اجتهد للخروج من وحل التجربة الأولى والتحرر من توحش تسقط الفعل وتسغله وهبوط القاموس اللغوي إلى درجة أكثر علواً وسمواً في تجربتيه اللاحقتين (زمن الأخطاء - ووجوه) على حين تلقف عبدالله بن بخيت هذا المنحى المكشوف على الرغم من مسافة ثلاثة عقود وطبقه على شخصياته فعلاً وقولاً، دون أن يجرأ على الاعتراف الذاتي كما فعل شكري.

والحق أن رواية (شارع العطايف) صادقة وكاذبة؛ وحسنة وسيئة، ومحتشدة بإبداع تصويري فذ ونادر، كما أنها مليئة بنقل فوتوغرافي خال من أية لمسة روائية إبداعية!.

وإن تغاضينا عن الفحش الفعلي والقولي في هذه الرواية فهي أيضاً قمينة بأن تكون تأريخاً - وإن كان غير أمين ولا محايد - لشريحة اجتماعية، ولزمنٍ مقتطع من تأريخ وجغرافية الرياض في السبعينيات والثمانينيات الهجرية من القرن الماضي، فقد وفق الكاتب في رسم صور متخيّلة هي أقرب إلى الواقع الذي كان - وإن لم يرد السارد التأريخ لذاته - فدخلنا معه إلى الأزقة والحواري الرطبة، وأوغلنا مع (فحيج) في ظلمات المقابر، وأقبية الدور الطينية، وشممنا مع (شنغافة) روائح عرق المخازن النائية القصية في الغرف المستترة من قصر إحدى الوجيهات، وقادنا السارد الذكي بقصد وعناية إلى بيئة أخرى مناكفة ومناوئة لمسلكيات فحيج وفطيس وشنغافة وسعندي؛ وهي بيئة التيار الديني المحافظ الذي صوره السارد بما يثير في النفس تخليق مشاعر من عدم القبول والحب للنماذج التي أقحمها في طريق الشخوص الرئيسة المهمشة المتمردة الرافضة؛ فالمتدين - حسب السارد - يختلس النظر إلى (نوف) وهي مولية، وأصابعه أو بعض أصابعه التي تمتد للتشهد في الصلاة معتادة على الغوص العميق في مؤخرة نوف!! وهو أيضاً ذلك القاسي العنيف الذي يسلخ جلد شنغافة بعد شربه المسكر، وهو أيضاً ذلك المنتهز المهيأ للكسب الحرام واستغلال فرص الإثراء!.

سلط (السارد) بعناية وقصد ووفق رؤية (مسبقة التكوين والصنع) أي مع سبق الترصد! لاقطته الدقيقة على الطبقة المهمشة المهملة المتمردة الرافضة - لا فكراً وإنما فعلاً، وهو فعل ينم عن استبطان موقف فكري غير منسجم مع الواقع- وتتبع هذا العالم السفلي المليء بالشذوذ، والمحتشد بالاقترافات الآثمة، والموشح برائحة الخطيئة. وليس هذا في هذا الاهتمام بهذه الطبقة وممارساتها من حرج فيما أرى لو اجتنب السارد الفرز الطبقي والديني المسبق، ولو لم يعقد العزم على أن تكون غايته أو النصيب الأكبر من غاياته الفنية (الوصف) لذات الوصف المجرد لكل ما هو خطيئة مسكوت عنها، ولكل ما هم إثم يعف الناس عن الإشارة إليه؛ فكأنه أراد ذلك للرواية التي لا أستبعد أبداً استقلاله التام عن عالمها، أو تجرده المطلق عن بيئات شخوصها؛ ولربما كان في كل شخصية من شخوصه الفاعلة المؤثرة جزء حميم منه! لأن عدسة السارد العليم الخبير تتوغل في خفةٍ وسلاسة إلى العالم الخفي المستتر المغلق في الأزقة والدهاليز والأقبية والمقابر والغرف الرطبة في جزيرة اللؤلؤ، وهو لا يكتب حشواً أو تزايدا؛ بل يرصد تطور أبطاله ويراقب نموهم ويذهب معهم في خيباتهم ومعايرهم السوداء، فلا لذة حتى في الجنس الذي لازم الرواية وتساوق مع أحداثها؛ فقد بدأ الاشتهاء وتكشفت ملامح الإثارة في لحظة عزاء، ثم تمادت الصورة الجنسية الفادحة في عالم القبور والسقوف الواطية واستقبال انتهاك استبدادي لهذه الرغبة الوليدة عند (فحيج) بحيث لا تنمو لديه بصورة سوية، بل بتنام وصعود شاذ، مما يخلق في داخل رغبة أخرى وليدة تدفعه إلى استعادة الذكورة المهدورة بالانتقام والدم. وكل النهايات للمتعة المتقصدة من السارد تبدو غير فرحة ولا مبهجة، فمصاير شخوصه سوداء، إما بالقتل أو المرض أو الفقدان والغياب غير المبرر كما هي حالة (معدية)!

إن عناية السارد بقاع المجتمع على هذا النحو تُحمد له؛ فلربما كان من أسباب تميز هذه الرواية اهتمام الوحيد تبدو في عالم المهمشين، وتقديم نماذج منهم بروح إنسانية عالية كبشر أسوياء، لهم لذائذهم المحرومون منها، ومتعهم المصادرة، وكونهم الآخر المضاد!.

بيد أن هذه الشريحة الاجتماعية تبدو لنا وكأنها في معزل عن محيطها الاجتماعي النامي وما تضطرب به الحياة من حول شارع العطايف من تغيرات وبداية تحولات علمية وثقافية وتنموية؛ في دخنة والقِرِي وقريب من ميدان الصفاة حيث الجامع الكبير تتخلق بداية حركة علمية سلفية، ويفد دعاة فكريون مؤدلجون، ويتعايش مع كل هذا ذوو اتجاهات فكرية أخرى متقاطعة مستجيبة لمخاضات سياسية وفكرية عربية، فأين إيحاء شيء من هذا العالم الجاد والمؤثر والمهيئ للتغيير من شخوص العطايف المنعزلين الغارقين في قاعهم الأسود الموحش المحتشد بالشذوذ والعرق والخيانة والجنس؟!

يُحمد للسارد تلك العناية بالمهمش، ولربما -ومن باب تأكيد هذا الظن- تخلد هذه الرواية من حيث اعتنى كاتبها ابن بخيت بما هو مسكوت عنه بشراً وممارسة!

غير أن (الوصف) الموغل في الخشونة والمسرف في التفاصيل لممارسات جنسية شاذة ومصادمة ينزل بالسرد من عليائه الفني وإشراقاته الإبداعية العميقة التي تأتي في جمل قصيرة عميقة المعنى هي أقرب إلى الحكمة أو الأحكام ينزل به إلى أن يكون مبتذلاً وسوقياً وناذفاً بكل ما هو دنيء وقميء ومنكر من القول أو الفعل.

ولعل من الحسن -وإسراف بعض كاتبينا على هذا النحو في فاحش القول والفعل- أن نقصر قراءة هذا السرد على من بلغ أشده واستوى؛ بحيث نكتب على الغلاف ما يشبه التنبيه: للبالغين فقط!!. أو أن ندخله تحت خانة: مشفر برقم سري؛ بحيث لا يصل إليه إلا من نضج واستوى!.

تفوق محمد شكري في هذا المنحى وإن فحش؛ من جانبيه: هدفه مع نفسه، وحرصه على أن يكون واقعياً وفق تصور الفن؛ وتراجع ابن بخيت دون ذلك المستوى الفني بحيرته واضطرابه بين السيرة الذاتية والتأريخ وعالم التخييل غير الناضج.

وتبين ذلك الاضطراب في انتحال الأمكنة -على أنها هي الأمكنة الحقيقية- وانتحال الشخوص على أنهم معروفون كبشر أسوياء ربما ما زال بعضهم يتنفس الهواء!

وافتقدنا ذات السارد الهاربة المختبئة المقسمة بين الذوات الأخرى المستبدة بالأحداث. وتحول الجنس من المال والمتعة إلى القبح والعذاب.

لقد كان الجنس في (شارع العطايف) يصل في كثير من الصور إلى حد الافتعال والإطناب والمبالغة، وكان وصفه يصل أيضاً إلى حد نقل اللاقطة المجردة التي تشف المشهد ولكن لا تضيف له لمسة إبداعية؛ فيظل فعلاً مجرداً من الإسقاطات مستسلماً لمتعة الاقتحام وتكسير المحظور.

ويبدو أننا لم نتجاوز بعد تجربة محمد شكري لا من حيث الجرأة الذاتية، ولا من حيث المعالجة الفنية؛ وبالموازنة بينها نجد أن الخبز الحافي (تمثل موعظة) محتشمة ولطيفة ومؤدبة قياساً إلى شارع العطايف! ونؤكد أن توظيف الجنس بصورة فنية راقية يصعِّد العمل الفني ويرقى به، على حين يهبط به في حالات الابتذال والتكشف الفج.

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام - كلية اللغة العربية


Ksa-7007@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد