في تقرير لافت، نشرته صحيفة الجزيرة يوم الثلاثاء (31 مارس) المنصرم، ذكر زميلنا (سعود الشيباني) - كاتب التقرير - قصة محزنة لفتاة سعودية، أوقعها ذات يوم بؤس حالها ونحس حظها، في طريق دورية للهيئة، فقبض عليها مع شاب بتهمة (خلوة غير شرعية)، وقضت بسبب ذلك سنة في السجن،
ثم خرجت من السجن إلى سجن آخر أكبر وأفظع، حيث رفضها الأهل، وتبرأت منها الأسرة, ولفظها المجتمع، فقضت تسع سنوات من عمرها في دار الرعاية الاجتماعية، إلى أن امتدت لها يد حانية من فاعل خير، انتشلها من سجنها وقهرها، وزوجها من شاب ضرب أروع مثال في الإنسانية، فأنهى بذلك معاناة إنسانة محطمة، قضت عشر سنوات من عمرها، في ظلام ووحشة وبؤس وقنوط، لأن الستر الذي كان يمكن أن يجنبها كل هذه المعاناة المركبة، كان مستوراً وقتها في أدراج الهيئة..!
* التقرير اللافت إياه؛ أشار إلى أمر في غاية الأهمية، فمن منكم يا سادة يا كرام، (كان) حتى يوم الناس هذا، يعرف أن هناك تعميماً صادراً من سمو وزير الداخلية، برقم (3852 - 2 ش، في 21 - 7 - 1414هـ)، موجه لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حول قضايا الخلوة غير الشرعية، التي يتم تطبيقها بين الحين والآخر، فيشير التعميم إلى أن: (التعليمات المبلغة، تقضي بترك المرأة التي يتم القبض عليها مع رجل، لما في ذلك من فائدة اجتماعية، وتحقيق لمصلحة الستر الذي أمر الله به، فيما يتم أخذ التعهد على الرجل، بعدم العودة لمثل ذلك)..؟!
* هذا تعميم رسمي من جهة مخولة، عمره (ست عشرة سنة)، ويحمل في طياته أبرز السمات الإنسانية التي كان يمكن أن تطبقها فروع الهيئة في كافة المدن، فترفع عن نفسها بموجبه حرج المواقف الحادة، وتداعيات المنافرات والمصادمات التي وقعت بين بعض فرقها في الميدان، وبين عدد كبير من المواطنين والمواطنات في كثير من المدن، حتى فقدت الهيئة بسبب هذه التصرفات، الكثير من تعاطف المجتمع مع دورها الرسمي، في الأمر بالمعروف بالحسنى، والنهي عن المنكر بالحسنى أيضاً.
* لماذا لم تستفد هذه الفتاة المسكينة، من هذا التوجيه الجميل من سمو وزير الداخلية..؟ ومن هو المسؤول عن عشر سنوات ضاعت من عمر هذه الإنسانة بين سجن وسجن، وعن معاناتها طيلة عقد كامل من عمرها..؟
* لماذا غاب مضمون هذا التوجيه، عن عدة حالات صدامية شهدتها مدن مثل: (الرياض وتبوك وحائل والمدينة المنورة) على سبيل المثال، بين دوريات للهيئة ومواطنين ومواطنات، ومن بينهم فتاة لجأت إلى وسط نسائي في مشغل في المدينة، فلحقها رجل الهيئة مقتحماً المشغل، وسحبها من شعرها من بين النساء إلى جيمس الهيئة. ومنطقة المدينة المنورة بالمناسبة، ما زالت تسجل أعلى حالات من هذا النوع العنيف بين الهيئة والمواطنين حتى اليوم. فهل يعود فرع الهيئة فيها إلى هذا التعميم فيفعِّله.. لمصلحة الهيئة أولاً قبل غيرها؟
* لماذا ظل هذا التعميم - الذي يبسط مفهوم الستر في أجمل وأروع صوره - سراً من الأسرار طيلة هذه السنوات الطوال..؟ وهل وصل إلى فروع الهيئات، أم ظل في المقر الرئيسي..؟ ومن المسؤول عن تغييب توجيه إداري بهذه الأهمية..؟
* أسئلة لا حصر لها، يبعثها النشر المتأخر عن تعميم الستر المغيب هذا، وتشمل في الواقع، مفهوم الستر نفسه، الذي يرى بعض منسوبي الهيئات، أنه يتعلق بعدم نشر وقائع حالات القبض، وربما توقف هذا البعض، عند حد هذا الفهم وهذا التفسير القاصر، في حين أن النشر في حد ذاته - وكما نعرف في الصحف - يتناول في العادة، وصف الحالات لا الأشخاص، ولا يهتم كثيراً بالأسماء، فالنشر في هذه الحالة مما يُرغب فيه، وليس في ستره مصلحة، لكن الستر الذي يفهمه الناس وينتظرون تفعيله، ويفسره تعميم سمو وزير الداخلية آنف الذكر، هو تحاشي تسجيل حالات الخلوات غير الشرعية في قيود القضايا الجنائية، وتجنيب النساء مواقف الفضح من وراء ذلك، وإعطاء الرجال فرصة للاستقامة، بالاكتفاء بأخذ تعهد خطي. فلو تم تفعيل التعميم كما هو منصوص عليه، وأخِذ مبدأ الستر وفق هذا المفهوم الراقي، لما سجلت إحصاءات الهيئات حالات القبض في فروعها بمئات الآلاف، حتى وضعت بذلك مئات آلاف المجتمع السعودي، في خانة الفساد والرذيلة - والعياذ بالله.
* هناك بصيص نور، بدأ يظهر في آخر النفق المظلم، والمجتمع الذي لا يرفض هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطبيعة الحال، حتى وإن رفض الخشونة في تعامل بعض فرقها معه، يتمنى على الله، أن يقترب هذا الضوء المفرح، وأن يسرع الخطى، وتتسع دائرته أكثر وأكثر، لتشمل كافة جهاز الهيئات، فقد جاءت تداعيات قضية القحطاني الأخيرة في الرياض، لتكشف جوانب جديدة من الخلل في العمل الإداري والميداني للهيئات، ومنها التعاطي الإعلامي الممثل للهيئة من داخل الجهاز نفسه، وتكشف في مقابل ذلك، نوايا - نظنها - مخلصة، تسعى إلى إصلاح المسار، وإعادة التوازن لجهاز الهيئات في كل المناطق.
* قلتها مرات ومرات، وأقولها مجدداً: إن المتصدرين للدفاع عن الهيئات فقط لأنها (مؤسسة دينية)، لا تنتقد في زعمهم، هم أول من يسيء لهذا الجهاز الحكومي الكبير، ويخطئ هؤلاء النفر المتحمسون، الذين يصورون الهيئة على أنها (شوكة) في عيون المجتمع السعودي كما يزعمون، لأن المجتمع السعودي ليس فيه مريض قلب، ولا أصحاب سوابق وشهوات، وليسوا من أهل الباطل والضلال والبدع، حتى يتمنى هذا البعض (المريض)، خزق عيونهم بشوكة الهيئة..!
* من مصلحة الهيئة، أن تكون (وردة) في عيون مجتمعها كله، وليس شوكة للخزق، يظنون أنهم بفعلهم هذا، ينصرون الهيئة، وهم إنما يضرون الهيئة.
assahm@maktoob.com