الرياض - خاص بـ (الجزيرة)
حثنا ديننا الإسلامي الحنيف على العمل والإنتاج والكسب الحلال، والرسول صلى الله عليه وسلم علمنا أن العمل عبادة، وقربى إلى الله، وفي الحديث الصحيح: (ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود - عليه السلام - كان يأكل من عمل يده)، وقالت عائشة رضي الله عنها (كان أصحاب رسول الله عمال أنفسهم).
ولقد رفع الإسلام من قيمة العمل مهما كان نوعه حتى لا يتخاذل الناس في ميدان العمل أو يتحرج بعض أصحاب الأعمال البسيطة، فالعمل خير للإنسان من أن يسأل الناس، لأن ترك العمل يؤدي إلى الفقر والبطالة، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه).
والمسلمون اليوم في أمس الحاجة إلى توجيهات رسولهم صلى الله عليه وسلم التي تحث على العمل وتؤكد على ضرورة إتقانه: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، وقد شاعت بين كثير من المسلمين مفاهيم خاطئة في التعامل مع العمل خاصة في المؤسسات الحكومية فقل فيها الإنتاج، وتراجع أداء العاملين، وتفنن البعض في عدم الالتزام بمواعيد العمل الرسمية، في ظل ذلك كيف نغير نظرة الناس إلى بعض المهن والأعمال، وكيف ننمي فيهم روح الإنتاجية والابتكار والحرص على العمل وخدمة الإنسان لنفسه أولا ثم مجتمعه المسلم؟.
التعامل مع الله
بداية يوضح الدكتور العباس بن حسين الحازمي (أستاذ القرآن الكريم وعلومه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية): إن شعور الإنسان بأن العمل الذي يقوم به هو عبادة في حد ذاته وأن الأجرة المترتبة عليه رزق حلال من الله عز وجل وفي انتفاعه بتلك الأجرة وإنفاقها على أهله وذويه، والتصدق منها أيضاً عبادة لله تعالى في ذلك، ذلك الشعور المشار إليه عون للإنسان على القيام بذلك العمل والتعود عليه.
وفي تعويد الإنسان لأبنائه في صغرهم على القيام بما يناسبهم من أعمال البيت وعدم الاعتماد التام على الخدم والحشم، وما يعينهم بعد ذلك على عدم التحرج والاستنكاف من أي عمل كان.
أما إتقان الإنسان لعمله والتزامه بمواعيده فما يعينه عليه مراقبته لله عز وجل ويقينه أنه إنما يتعامل مع ربه عز وجل وحرصه على أن يكون رزقه حلالاً ومطعمه حلالاً ومشربه حلالاً، وفي إتقان الإنسان لعمله سعادة حقيقية له، وإزاحة لكثير من الهموم والغموم عن كاهله.
وقالوا في الحكمة المعاصرة: إن الذي ينغّص حياتك ويكدّر خاطرك هي الأعمال المؤجلة.
عبادة ورياضة
ويقول الدكتور عبدالله بن سوقان الزهراني (الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - كلية القرآن): إن العمل رياضة للفكر والجسم وشغل للنفس عن البطالة واللهو، وكسرها عن الكبر، وإبعادها عن الخمول والكسل، وتعفف عن ذل السؤال.
وقد ورد ذكر العمل في القرآن الكريم في أكثر من مائة آية، فأول آية جاء فيها ذكر العمل تضمنت بشارة لعاملي الصالحات بجنات تجري من تحتها الأنهار، وفي وسط القرآن جاء قوله تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)، وفي خواتمه تطمين لأولئك العاملين بحفظ كامل أعمالهم: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، ثم بعد ذلك أمر بالتواصي بالحق ليندرج تحته إتقان العمل، والتواصي بالصبر ويستلزم الثبات وعدم استعجال النتائج، فالإنسان مبتلى بالصبر على العمل ومبتلى بإتقان ذلك العمل: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)، وكم ختمت آيات من القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فالعلم والعمل صنوان ومادتهما واحدة، فلا ينفع علم بدون عمل كما لا يجدي عمل بلا علم.
وقد قال العلماء: (إنما يفضل العامل بنصحه وإتقانه للعمل) مستشعرين قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) وبشر صلى الله عليه وسلم ذلك الأعرابي الذي أراد الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن بقاءه في إبله - يحسن إليها ويؤدي حق الله فيها - خيرٌ له (...فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئاً).
والمتأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجدها كلها علم وعمل وبثّ ذلك في أصحابه فأرشد بعضهم إلى تعلم اللغات الأجنبية وأرسل بعضهم إلى خارج المدينة ليتعلموا بعض الصناعات الحربية والحرفية.
والمتأمل في سيرة كثير من علماء السلف يجد الواحد منهم يتقن فنوناً عديدة فتجد فيهم مفسراً ومحدثاً ًومؤرخاً وطبيباً وفلكياً ومعمارياً، فنشر دين الله في أرضه وخدمة عباد الله وتعاون الناس على البر والتقوى لا يختص بشريحة من الناس دون أخرى ولا بحرفة دون غيرها (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).
ثمرة الإحسان
وتشير الدكتورة مها بنت محمد العجمي (أستاذ المناهج وطرق التدريس بكلية التربية بالرياض): أن الإتقان سمة أساسية في الشخصية المسلمة وهي التي تحدث التغيير في سلوكه ونشاطه، فالمسلم مطالب بالإتقان في كل عمل تعبدي أو سلوكي أو معاشي قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)، وهناك عدة تساؤلات حول مجتمعنا الحالي فهل نحن بالفعل نربي في مجتمعنا المسلم الشخصية المسلمة المهتمة بإتقان أمور الحياة كلها؟. وهل هذا من أسباب تخلف وتأخر مجتمعنا؟ وما قيمة الشعائر والوسائل التعبدية التي لا تحدث أي تغيير في سلوك الفرد وإنتاجيته؟.
وللإجابة على تلك الأسئلة لابد أن ندرك أن الإتقان في الإسلام ليس هدفاً سلوكياً فقط وإنما هو ظاهرة حضارية تؤدي إلى رقي وتقدم المجتمع، فلا يكفي الفرد أن يؤدي العمل صحيحاً بل لابد أن يكون صحيحاً ومتقناً حتى يكون الإتقان جزءاً من سلوكه الفعلي اليومي، وعندها تتميز الأمة بالإخلاص في العمل وتقوى المراقبة الداخلية ويتجرد العمل من مظاهر النفاق والرياء، والله عز جلاله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، وإخلاص العمل لا يكون إلا بإتقانه.
وشريعتنا الإسلامية لا تجعل إتقان العمل أمراً دنيوياً يبتغي الفرد منه منفعة عاجلة فحسب بل تجعله أيضاً أمراً تعبدياً يتقرب به إلى الله تعالى، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) ولو دققنا في ألفاظ الحديث الشريف لوجدنا في قوله: (عملاً) لم يحدد نوع العمل: وهذا إيحاء بأن الله تعالى يحب أن يكون الإتقان سلوكاً للمؤمن في كل أعماله.
ولعلنا نلحظ أن من أسباب التخلف في المجتمعات الإسلامية افتقادها خاصية الإتقان كظاهرة سلوكية وعلمية بين الأفراد والجماعات، وانتشار الصفات المتناقضة للإتقان كالفوضى والتسيُّب وفقدان النظام وعدم المبالاة بقيمة الوقت والإهمال والغش.. إلخ. وهذا منعكس في فقدان المسلمين للثقة في كل شيء ينتج في بلادهم مع ثقتهم في منتوجات الدول الغربية مع أن صفة الإتقان وصف الله بها نفسه لتنقل إلى عباده (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)، والمجتمعات الإسلامية في تعطش لهذا النوع من العمال والموظفين المخلصين المتقنين لأعمالهم لكي تنهض من كبوتها وتتقدم من تخلفها وتصبح كما كانت في سالف عهدها خير أمة: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).
التقصير والتهاون
وتؤكد د. مها العجمي أن المجتمعات الإسلامية تفتقد التربية الأسرية والمدرسية والاجتماعية التي تجعل عمل الإتقان في حياتنا مهارة داخلية تعبر عن قوة الشخصية التي تكسب الإنسان الاتزان والثقة والاطمئنان والتفرد إلى جانب اكتساب المهارة المادية والحركية، ومن المؤسف أن نجد بعض المسلمين يهملون العمل بإتقان مستهينين بمعناها وأثرها في رقي المجتمع وسعادته، وحجتهم في ذلك الربط بين إتقان العمل والمقابل المادي، يتحينون فرصة غياب الرقابة الإدارية لإبداء التقصير والتهاون في أداء الواجبات، يرهقون المواطن البسيط بإبداء الإهمال في خدمته، معتقدين خطأ أن لا حرج عليهم، ولو وقف هؤلاء غير المتقنين لأعمالهم لأدركوا أن غياب الإتقان والإحسان في العمل يؤثر على هؤلاء الأشخاص أنفسهم قبل غيرهم، وكم كان إتقان العمل سبباً في ارتقاء الموظف في وظيفته، وإكساب المعلم أو الطبيب سمعة طيبة بين الناس ولازال بعض الصناع يتقنون صناعتهم حتى حصلت على إقبال الناس وثنائهم في بلدهم ثم خارجها، هذا إذا كنا لا ننظر إلا إلى المنفعة العاجلة، أما إذا كنا ننظر إلى العمل على أنه جزء من العبادة، فإن غش المسلم لأخيه في بضاعة أو عمل قد يخرجه من جماعة المسلمين ويؤدي إلى فقدان الاحترام والثقة بين أفراد المجتمع، وكذلك انتشار الكذب والخداع وتفكك الروابط الاجتماعية التي تقوي الأمة.
وأول عمل يتطلب الإتقان في حياة المسلم هو الصلاة حيث يطالب بها في السابعة ويسأل عليها في العاشرة، فإذا وصل مرحلة الشباب والتكليف كان متقناً للصلاة محسناً أداءها، فالمسلم في الصلاة يتقن عدداً من المهارات المادية والمعنوية، فإقامة الصلاة وما يطلب منها من خشوع واستحضار لعظمة الخالق وطمأنينة الجوارح وتسوية الصفوف وممارسة الصلاة خمس مرات في اليوم، كل هذه الممارسات تتطلب التعود على الإتقان حتى تنتقل هذه العادة من الصلاة إلى سائر أعمال المسلم اليومية دينية أو دنيوية.
والعمل الذي يبنى على الإتقان والكمال من المستحيل أن يندثر أو يتلاشى لأن أساسه قوي ومتين والأمثلة كثيرة، فالعامل الذي يكد ليل نهار بصدق وإخلاص سوف يجد نتائج هذا العمل من احترام الناس وتوفيق الله له وكذلك المعلم الذي يتقن ويحسن تدريسه لطلابه سيلاقي هذا الغرس الطيب والبذر الصالح الذي نما على الطهارة والتقوى.
وهناك خلقان أصيلان يتوقف عليهما جودة العمل وحسن الإنتاج هما: الأمانة والإخلاص، وهما في المؤمن على أكمل صورة وأروع مثال، فالعامل المؤمن ليس همه مجرد الكسب المادي أو إرضاء صاحب العمل ولكنه أمين على صنعته يخلص فيها جهده ويراقب فيها ربه ويرعى حق إخوانه المؤمنين، فقد قال عز جلاله: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) فليس المطلوب في الإسلام مجرد العمل بل إحسانه وأداؤه بأمانة وإتقان.
ومجتمعنا يحتاج إلى تغيير جذري في مفاهيم العمل وأهمية الإنتاج ويحتاج إلى تعليم مكثف لأهمية الإتقان لكل عمل يقوم به، فنحن للأسف لا نتعلم من ديننا ولا نتعلم من غيرنا، وتربيتنا الأسرية والمدرسية لا تقوم على أهمية أن تعمل، وتكد وتجتهد وتبني في الحياة، بل إن مفاهيم خاطئة لا تفرق بين التكامل كقيمة حياتية والتكاسل كعيوب سلوكية وحياتية، وإلى الآن لم توضع البرامج التي ستغير من أساليب العمل ومفاهيم الإنتاج في المستقبل، والتعليم العام والجامعي في بلادنا يدلان على أننا لا نسعى لتغيير هذا المجتمع للأفضل، وسنظل عالة على غيرنا نستهلك ما يصنعون وينتجون.
لهذا فنحن مطالبون بترسيخ هذه القيمة التربوية الحياتية في واقعنا وسلوكنا لأنها تمثل معيار سلامة وقوة شخصية الفرد وكذلك سمة التغيير الحقيقي فيه، كما أننا مطالبون ببذل الجهد كله في إتقان كل عمل في الحياة يطلب منا ضمن واجباتنا الحياتية أو التعبدية، وبذلك نعمل على ما يحبه الله تعالى فهو المطلع على أمور عباده وهو الحي الذي لا ينام وهو القائل عز جلاله: (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ).