فإن الدعوة إلى الله عمل جليل وثوابه عظيم، يتوارثه الدعاة جيلاً بعد جيل وهي عماد الأمة وركيزتها الإيمانية ومصدر هدايتها ورشادها وصلاحها، وهي النور الذي يضيء الطريق للناس وبين لهم الدين الصحيح والعقيدة الحقة ويذكرهم بيوم الأهوال، يوم تشخص فيه الأبصار وتزول فيه الجبال، فيومئذ كل نفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
|
كيف لا وهي ميراث الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- وميدان فسيح يتنافس فيه المتنافسون، كل حسب قدرته وعلمه وهمته وعزمه وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
|
والدعوة إلى الله واجبة؛ حيث يقول المولى عز وجل في محكم تنزيله {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم- (بلغوا عني ولو آية) والعمل في الدعوة إلى الله فيه من المتعة ما فيه لمن أخلص النية وأدرك قيمته وثمراته ورجا ثوابه.
|
والداعية إلى الله مثل المزارع الذي يزرع بالمطر لا يعرف اليأس والقنوط؛ فهو يتوكل على الله ويختار الوقت المناسب لغرس البذور ويبحث عن الأرض الخصبة ويحضر البذور المحسنة والسماد الذي يساعد في نمو الزرع ويستخدم الآلات الحديثة للحرث والغرس والحصاد لكسب الوقت وتغطية أكبر مساحة من الأرض. فيزرع ويصبر حتى تنمو الأشجار ويسأل الله ليل نهار الغيث لسقيا زرعه ونجاحه حتى يجني ثماره ويتذوق حلاوته، فعلى المرء أن يسعى وليس عليه إدراك النجاح (ما على الرسول إلا البلاغ).
|
وهكذا الداعية يعمل في توكل وإيمان وصبر ولا يدع لليأس مجالاً فيحضر نفسه بما استطاع من العلم النافع ويتخير الأوقات المناسبة للدعوة والأسلوب الأمثل في مخاطبة المدعوين مستفيداً من وسائل التقنية الحديثة في علمه ودعوته، ويدعو الله في كل أوقاته لنفسه ولمدعوه بالثبات والهداية ويتحلى بالصبر ولا يستعجل النتائج ويتوجب عليه أن يقوم بالرعاية والمتابعة المستمرة لأعماله والتضحية في سبيل الدعوة فذلك سر النجاح.
|
وأهداف الدعوة جليلة والغاية نبيلة وتتلخص المهمة أو الوسيلة بإيجاز في الآية الكريمة في قوله تعالى {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وما على الرسول -صلى الله عليه وسلم- يترتب على المؤمنين فالواجب تبليغ الرسالة والإبانة بالأسلوب الحسن، والهداية من الله عز وجل؛ فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
|
ولا يخفى أن فضل الدعوة إلى الله عظيم وثوابها جزيل؛ إذ يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- (لأن يهدي بك الله رجلاً واحداً خير من حمر النعم)، وربنا يقول {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
|
ومن اشتغل بالدعوة فقد تقلد شرفاً عظيماً وهو عهد وميثاق مع الله تعالى أولاً وأخيراً وعليه أن يلزم منهج الرجال الذي قال فيهم الله عز وجل {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
|
فعلى الداعية أن يوطن نفسه على الدعوة وتحمل مشاقها، وأن لا يدع مجالاً لليأس والقنوط بالتسلل إلى نفسه؛ لأن اليأس من مداخل الشيطان ومن أسلحته الفتاكة التي تسبب الانهزام النفسي وتقعد صاحبه عن العمل والتطوير والتقدم إلى الأمام.
|
وعليك أيها الداعية أن تستلهم الدروس والعبر والقدوة من قوله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}؛ ففي عام الحزن ولما توالت الأحداث عاصفة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فقد الأحبة وتعاظم مشاق الدعوة، أنزل الله تعالى عليه سورة يوسف رحمة وتخفيفاً لآلامه ولتشد من أزره وعزمه فقال تعالى في محكم تنزيله {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} ولا تيأسوا من روح الله أي لا تقنطوا من فرج الله.
|
وجاء في كتب التفسير (قاله ابن زيد، يريد: أن المؤمن يرجو فرج الله، والكافر يقنط في الشدة، وقال قتادة والضحاك: من رحمة الله (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) دليل على أن القنوط من الكبائر، وهو اليأس).
|
فعلى الداعية أن يعزز ثقته بالله تعالى وبنصره ووعده، وألا ينظر للمثبطين أو لواقع مجتمعه الذي هو فيه وعليه أن يتلمس أسباب القوة ليحصن نفسه من نزغات الشيطان ووساوسه، كما قال -صلى الله عليه وسلم- (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) فالقوة هنا حتى في الدعوة وعمل الصالحات.
|
ومن أسباب القوة الهامة والأساسية والتي نحن بحاجة ماسة إليها اليوم ويجب أن نسعى لها جميعاً ونعطيها حقها وندرك قيمتها هو لزوم الجماعة فالعمل الجماعي مطلوب في الدعوة إلى الله والمؤمن ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، وقد قال الأول:
|
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا |
وإذا افترقن تكسرت آحادا |
والمتأمل لواقع الأمة اليوم يجد أن أعداءها قد توحدوا صفاً واحداً للنيل من عقيدتها ومكتسباتها وقيمها بكل ما أوتوا من قوة ويحاولون المرة تلو المرة لا يصيبهم اليأس ولا يكلون ولا يفترون، وعلى العكس نجد أن من أمتنا بل من دعاتنا من ييأس ويقنط وبين يديه كل أسباب النصر والتمكين وهو قوي بربه تعالى. وهذا الاستلام مرفوض ولا يليق بمن ينتسب إلى أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فنحن خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر وهذا ديدننا أبداً ما حيينا بإذن الله تعالى، ونقوم بالدعوة إلى الله على بصيرة لقوله تعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
|
ختاماً.. ومما تقدم نكررها، لا للإحباط في الدعوة إلى الله، فأبشر بالخير أيها الداعية وأمل وظن خيراً بربك فالمستقبل للإسلام، وعليك أن ننظر إلى الحياة نظرة متفائلة وأن تغرس التفاؤل في نفوس الآخرين وعلينا أن نقتدي جميعاً في ذلك بسلفنا الصالح، وعلى من اشتغل بالدعوة أن لا يستسلم أو يركن بمجرد وجود عقبات أو مشكلات فالطريق ليس مفروش بالورود ولكن بالحكمة والصبر ينجز الإنسان كل شيء ويتجاوز كل عقبة وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. ونتوجه إلى الله مخلصين له الدعاء أن يثبتنا على دينه وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يجعلنا من الدعاة إلى سبيله بالحكمة.
|
* القصيم |
|