في عام 1405هـ كنت في رحلة إلى الكويت للسلام على بعض الأقارب، وكان معي اثنان من الأصدقاء، ولما وصلنا الكويت أردنا الذهاب إلى مكان لصرافة النقود؛ لشراء عملة كويتية، ولكني لاحظت أن وقود السيارة قد شارف على الانتهاء؛ فخشيت أن ينفد؛ فوقفت عند أقرب محطة، ولما تزوّدنا من الوقود، وأعطينا العامل المبلغ المقدر بالعملة السعودية رفض - وحق له - وقال: أريد عملة كويتية، فحاولنا معه، وقلنا له: دعنا نذهب إلى أقرب صراف، ونأتيك بالمبلغ؛ فرفض؛ فصار كل واحد منا في جهة يبحث عن شخص يصرف له العملة؛ لنتمكن من السداد.
وبينما نحن كذلك صَوَّت لنا عامل المحطة قائلاً: لقد انتهى موضوعكم؛ فامضوا لشأنكم، فقلنا: كيف ذلك؟ قال: أرأيتم ذلك الرجل الذي سيركب سيارته؟ قلنا: نعم - وكان رجلاً بهيَّ الطلعةِ ذا لحية كثة، ويلبس نظارة وغترة بيضاء، كأني أراه الآن، قال العامل: سألني ماذا يريد هؤلاء؟ فأخبرته بالأمر، فدفع المبلغ كاملاً، وانصرف.
حينها رفعنا له الصوت طالبين منه أن يقف؛ لنشكره، ونعطيه المبلغ المقابل، فإذا به يسرع في خطاه، ويركب سيارته، ويسير؛ فلم نستطع إيقافه، أو اللحاق به؛ فتعجبنا من تلك الشهامة والمروءة.
هذا الموقف مضى عليه الآن قريب من ربع القرن، ولا يزال مرتسماً في ذهني، وكلما تذكرته ذكرت صاحبه بخير، ودعوت له من كل قلبي، ولو عرفت اسمه، أو مكانه لواصلته، ووصلته بما أستطيع.
هذا الموقف يصوِّر لنا الشهامة، والمروءة، والإخلاص بأروع ما يكون؛ ليس بقيمة ما دفع، وإنما لتقديره الموقف، وإخلاصه الذي بعثه إلى تسديد المبلغ دون أن ينتظر منا جزاءً ولا شكوراً.
وإني لأظن أن لهذا الموقف في حياة أخينا نظائرَ أخرى، وأرجو أن يغفر الله له، ويرفع درجاته؛ فإذا كانت المرأة البغي التي سقت كلباً فغفر الله لها بسبب ذلك - فما الظن بذلك الصنيع من رجل تقيٍّ صالح - أحسبه والله حسيبه -.
هذا الموقف يرينا وجهاً من وجوه الحياة المشرق الجميل الذي يطرد شبح اليأس، ويحارب جراثيم المادية البحتة، ويعطينا صورةً عن ذلك البلد الطيب، الذي تَعَوَّد أهله بَذْلَ المعروفِ، وإغاثةَ الملهوف.
* كلية الشريعة - جامعة القصيم