Al Jazirah NewsPaper Friday  03/04/2009 G Issue 13336
الجمعة 07 ربيع الثاني 1430   العدد  13336

بعد مهرجان عنيزة الثقافي
مقال التهنئة الوداعي

 

أكتب هذا المقال وأنا غارق إلى الأذنين في بحر لجي من المتاعب الصحية والنفسية لا ساحل له، ولا مرفأ على شواطئه آوي إليه، لكي أثني مع خالص المحبة وجميعها على ما سمعت بحدوثه في الأسبوع الماضي (ولم يتح لي رؤيته عياناً أو المشاركة فيه بنفسي) في مدينة (عنيزة) الأثيرة عندي والعزيزة على قلب كل من عرفها وخبر أهلها ولمس شمائلهم الحسان وأحس بمكارمهم ونعم بمحبتهم وسعد برفقتهم وتقلب في خيرهم ونهل من فضلهم، أولئك الذين أسدوا إلي (من المعروف) أضعاف أضعاف ما قد يمكن أن أكون قدمته لهم (من الواجب) عبر أكثر من نصف قرن خلال خلاطهم والخدمة في التعليم ببلدهم.

لقد أقيم في عنيزة في الأسبوع المنصرم مهرجان احتفالي وصف لي بأنه ممتع ومهيب، وانعقدت فيها أيضا اجتماعات وتمت لقاءات أدبية جذابة ومفيدة (كما علمت)، وتم ذلك كله تكريماً لنخبة من الأدباء والشعراء والمفكرين ورجال التربية والتعليم في هذه المدينة الطيبة المباركة التي اشتهرت بكثرة البارين من أبنائها واللامعين من أهلها في كل الميادين العامة والخاصة، أولئك الذين يصعب على صاحب ذاكرة فولاذية تذكرهم جميعاً، فما البال بصاحب ذاكرة (كرتونية) واهية شاخت واضمحلت وتسرب إليها الوهن وتسلل من ثقوبها العديد من الأسماء العزيزة والكثير من الأحداث السارة والذكريات الجميلة، لفرط ما عاناه وما زال يعانيه صاحبها من الآلام، وما يكابده من الأسقام، طوال عدد غير قليل من الأعوام.

إني لو أردت ذكر كل من عرفتهم خلال نصف القرن الماضي من اللامعين والناجحين على جميع الأصعدة من أبناء هذا البلد الكريم لما أسعفتني الذاكرة المتهالكة، ولأصابني الحرج الشديد ممن أحبهم ونسيت ذكرهم أو الحديث عنهم بما يستحقونه من الثناء، بمقتضى الاستحقاق والوفاء.

لقد كرمت عنيزة في احتفالاتها هذه مجموعة طيبة من أبنائها، هم: (أستاذ الأجيال عبدالله العرفج، ومحمد السليمان الشبل، والشاعر المفلق سليمان الشريف، والشاعر الراحل عبدالعزيز المسلم)، وهؤلاء جميعاً أحق بأن تقام لهم المهرجانات وتعقد من أجلهم الندوات، وبأن يحاطوا بما تستحقونه بجدارة من التكريم اللائق، والاهتمام الفائق.

لقد اشتهرت عنيزة بشعرائها وأدبائها والمفكرين فيها، وكذلك بانفتاحها المبكر على (المغلقات) في حينه حتى لقبت من أجل ذلك في وقت من الأوقات بباريس نجد، وعرف أهلها (من قبل غيرهم بزمن طويل) بالانفتاح المرن، وبهجرة عدد من أبنائها الطموحين طلباً للتجارة أو للعلم إلى عدد من البلدان العربية المجاورة والدول الآسيوية القريبة، لهذا اتسمت الحياة فيها بالدعة والسعة وحسن القبول، واتصف مواطنوها بالأفق الواسع، وبالتسامح اللطيف، وبلين العريكة، ووسمت المدينة بالتقدم الثقافي والحضاري، وبازدهار العلوم والمعارف فيها.

ولو حاولت أن أعدد المتفوقين من أبناء هذه المدينة الشامخة في جميع مناحي الحياة الفكرية والعلمية والعملية لأعياني - كما ذكرت - العد، حتى لو كان بمنتهى اليقظة والجد، وهذا يجعلني أكتفي (مضطراً) بمقدار (رمزي على كثرته) من المبرزين، في مختلف الميادين، معتذراً - مرة أخرى - لأمثالهم ممن لم أذكرهم لضيق المقام، أو للنسيان والغفلة الخاليين من التعمد، والبريئين من الشك.

ومن هؤلاء المتفوقين المشاركين بمقدار أو بآخر في النشاطات العامة المثمرة التي تذكر فتشكر في مجالي الحكم على مستوى الوزارة والعمل على نطاق الإدارة ممن أسهموا بهمة وبحزم وبلا كلل أو ملل وبقدر لا يستهان به من الجهد الصادق في قيام الدولة السعودية الحديثة ودخلوا بعملهم وإخلاصهم ودأبهم في سجل العاملين الأوفياء من أجل تقدمها ورفعتها: معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر وهو في غنى عن التعريف به وبفضله وثقافته وآلائه وأنعمه، ومعالي الأستاذ عبدالرحمن أبا الخيل، ومعالي الدكتور سليمان السليم، ومعالي الدكتور يوسف العثيمين، وفي الميدان الفقهي: فضيلة العلامة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي، وسماحة العلامة الشيخ محمد الصالح العثيمين.

وعلى صعيد الشعراء والأدباء ورجال التربية والتعليم والإعلام: الأديب الأريب والشاعر المجود عبدالله الجلهم، والشاعر الرقيق عبدالله الحمد القرعاوي، والشاعر اللامع عبدالله الحمد السناني، والشاعر المبدع عبدالله الصالح العثيمين، والشاعر القدير صاحب الشعر النفيس صالح الأحمد العثيمين، والشاعر البارز إبراهيم الدامغ، والشاعر اللبيب إبراهيم العبدالله التركي (أبو قصي) وهو الأديب الذي يعتد كثيراً بشعره، والصديق الذي يتميز بوفائه، ويمتاز بتفقده الدائم لأصدقائه في المنشط والمكره، والشاعر الكيس المسكون بالغربة أحمد الصالح الملقب ب(مسافر) لأنه حاضر يشعر بأنه غائب ومسافر هو كالمقيم فيصدق عليه قول الشاعر:

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا

وتسكب عيناي الدموع لتجمدا

والشاعر الجيد المقل عبدالله الناصر العوهلي، والشعراء (المكرّمون) من صفوة رجال التربية والتعليم الفضلاء الأساتذة عبدالله العرفج ومحمد الشّبل وعبدالعزيز المسلم وسليمان الشريف (الصامت في كلامه والمتكلم في صمته)، وكذلك المعلمون الأجلاء صالح بن صالح وعبدالرحمن العليان وعبدالرحمن القاضي، والأديب المعروف والصحافي المشهور السيد حمد العبدالله القاضي، والإعلامي القديم الحاذق الأستاذ سليمان المحمد العيسى، والأديب الحافظ الأخ عثمان العلي القرعاني (خزانة الشعر الذي لا ينظم الشّعر)، والأديب البارع والإعلامي المرموق الأستاذ الدكتور إبراهيم العبدالرحمن التركي (أبو يزن) الذي يثير إعجابك حين تلقاه لأول مرّة، ويتضاعف هذا الإعجاب بعد أن تلتقيه في كل مرّة، ويصل إلى حدّه الأقصى ومداه الأعلى حين تلمس عُمق غوره وتعرف سعة اطلاعه إثر التحدث إليه أو التحادث معه في أي شأن أدبي واجتماعي أو إعلامي أو تعليمي أو إداري، وهو لا يُرى إلا مبتسماً، ولا يقابلك إلا مرحباً، وتشعر به أخاً كريماً متسامحاً، وتحس بأنه إلى النجدة على الدوام مسارعاً، وبالوفاء ملتزماً وبالمكارم متشحاً، وهو ممن يصح أن يُنسب إليه الأدب حرفة وخُلقاً، لا أن يُنسب هو إليه بنوعيه.

وعلى الصعيد الجامعي الأساتذة الدكاترة من مختلف الاختصاصات: محمد الشامخ، وعبدالله الغذامي، وعبدالله اليوسف الشبل، وصالح العمير، وعبدالرحمن السماعيل، وسعد الصويان، وعثمان الفريح، وسعد وإبراهيم ومحمد أبناء عبدالرحمن القاضي.

وعلى صعيد الحقوقيين ورجال القانون الدكتور عبدالعزيز العلي النعيم، والدكتور حمد العبدالله الخويطر.

وعلى صعيد الإداريين والسفراء والأمراء المحليين: معالي الأستاذ عبدالله العلي النعيم الذي تميز بالفطنة والحزم وحسن (الإدارة بقوة الإرادة)، وأصحاب السعادة الأستاذ محمد العبدالرحمن الفريح الذي عُرف بسعة الاطلاع ولطف العبارة ودقة الإشارة وخفة الروح ورشاقة الدعابة وأناقة الكلمة وذكاء الفكرة، والأستاذ محمد الحمد السليم أمير عنيزة السابق، والأستاذ عبدالرحمن العوهلي السفير العريق، والشيخ محمد الصالح العيسى (حاتم طيّ هذا العصر) والأستاذ حمد الحسن الخليل، والسيد إبراهيم الصالح الخليل (أبو تركي) من أصحاب (الفزعات) والمروءات، والأستاذ محمد إبراهيم الدريس الدّمث الذكي الحييّ. وعلى صعيد الأطباء والمهندسين الدكتور عبدالعزيز المحمد العيسى، والدكتور محمد العبدالعزيز النعيم، والدكتور محمد العّماري، والدكتور عبدالرحمن العبدالعزيز النعيم، والمهندس أحمد المحمد العيسى.

وعلى صعيد المفكرين والمثقفين ورجال الأعمال: الأخ العزيز محمد الحمد البسام (أبو أيمن) أستاذي في اللغة الإنجليزية الذي عرفته صديقاً وفيّاً وأخاً مخلصاً على امتداد ما ينيف على نصف قرن، وهو عظيم الوفاء يستحق كل محبة وثناء، لقد عُرف منذ وقت مبكر جداً مفكراً سياسياً عميقاً، ومتابعاً فطناً، ومحللاً ناضجاً للأحداث التي تقع في المنطقة العربية بأسرها، وحين أصبحت أختلف معه بشدّة في الرأي في بعض المسائل السياسية كنت أخشى أن يؤدي هذا الاختلاف الشديد إلى الفتور (كما هو المتوقع في مثل هذه الحالة) في علاقتنا الوطيدة الراسخة، ولكن الذي حدث هو العكس، إذ ازدادت العلاقة وثوقاً وتعمقت المحبة رسوخاً واتسعت الصلة شمولاً على الرغم من صخب النقاش الناري وعجيج النزال المحتدم وعنفهما أحياناً، فأثبت كل ذلك صحة القاعدة الشائعة القائلة (خلاف الرأي لا يفسد -أو لا يبنغي له أن يفسد- للود قضية).

والصديق القديم الصدوق حمد العلي العليوي رائع الإنسانية عالي الشمائل رفيع الخصال الذي اعتاد على الوقوف الدائم إلى جانب أصدقائه -وأنا منهم- في الملمات.

والأخ العزيز النابض بالشهامة إبراهيم المصيريعي (أبو عبدالعزيز) صاحب الخلق الرفيع والمثل العليا المتمثلة في الصفاء والمكارم والمحبة الصادقة وجميل الأقوال والأفعال التي لا تشوبها شائبة ولا يخالطها زيف أو رياء، أو نقص في الوفاء.

والأخ اللبيب خفيف الظل عبدالله الصالح المحيميد الذي اشتهر بدماثته وتميز بذوقه وتألق في منطقه القليل المباني الغزير المعاني، الذي يستدعي دائماً استحسان سامعيه ومحدثيه بفكره الصائب وتعليقه المرح الطريف.

ورجل الأعمال الناجح الأخ الودود وصاحب اللقاء البشوش والنفس السموح صالح الحمد الونين.

وتجدر -في النهاية- الاشارة إلى ما في عنوان هذا المقال من الإيماءات التي تربطه برباط وثيق بقول إحدى الشواعر النجيبات الفطنات عن الفراق الوداعي الأبدي الذي سيخرجنا من الدنيا التي عشنا فيها عقوداً من السنين امتلأت بالأفراح والأتراح، وبالأحداث ما تسر منها وما لم يسرّ (وهي دنيا قصيرة مهما طالت) تاركين وراءنا ومطوحين خلف ظهورنا لأواءها ومسراتها، وخيرها وشرّها، وإقبالها وإدبارها:

تقول الشاعرة:

ذاك جسمي تأكل الأيام منه والليالي

وغداً تُلقى إلى القبر بقاياه الغوالي

وي كأني ألمح الدود وقد غشى رفاتي

ساعياً فوق حطام كان يوماً بعض ذاتي

عائثاً في الهيكل الناخر يا تعس مآلي

كله يأكل لا يشبع من جسمي المذاب

من جفوني من عروقي من شغافي من إهابي

وأنا في ضجعتي الكبرى وحضن الأرض مهدي

لا شعور لا انفعالات ولا نبضاتُ وجد

جثة تنحل في صمت لتفنى في التراب

رحم الله من ذكرناهم من الأموات، وأطال عمر الأحياء ومتعهم بالصحة وكلأهم بالتوفيق.

أ.د. عبدالكريم محمد الأسعد -أستاذ سابق في الجامعة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد