إننا لو عدنا إلى التاريخ السياسي للمنطقة وربطناه بما يردده الإيرانيون بين الحين والآخر، كمزاعمهم في البحرين، لوجدنا أنّ الأمر في منتهى الخطورة على أمننا الوطني خليجياً وسعودياً. فالسعودية كدولة هي الامتداد الطبيعي لكل من سبق ذكرهم، وهي العمق الإستراتيجي لدول وعرب الخليج جميعاً. ولو تصورنا أن السعودية كانت قائمة بشكلها السياسي الحالي في تلك الفترة التي تساقطت فيها مناطق نفوذ العرب شرق الخليج، لكان الأمر مختلفاً تماماً عما هو عليه الآن.
ولعل هذا أحد أسباب غضب إيران واحتجاجها الذي ذكرناه عند إبرام اتفاقية جدة المذكورة سلفاً. بل إن أحد أسباب التواطؤ البريطاني مع إيران لتصفية الوجود العربي في جزر وشرق الخليج، كان للحيلولة دون امتداد النفوذ السعودي أثناء فترة الإمام فيصل بن تركي وللتصدي لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب من الامتداد هناك. حيث تزامن هذا التواطؤ بينهم مع توسعات الإمام فيصل نحو الخليج وتأثر الوقاسم بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب. إذاً فالتاريخ يعيد نفسه ومجلس التعاون الخليجي أحد صوره وإن كان بشكل عصري، بل ويفرض واقعاً لابد أن نكون جميعاً في دول الخليج بحجم قيمته والقيام بواجبنا تجاهه، بل والعمل على تطويره في سبيل خلق اتحاد فعلي بين دوله أو على الأقل في صورة مقاربة للاتحاد الأوروبي.
وفيما يتعلق بالمملكة العربية السعودية، فإن قدرها هو أن تكون ذات الرسالة التي لا مناص من حملها تجاه الإخوة في العقيدة والدم واللسان. وليس هذا بالتعدي والقطيعة ولكن باليقظة التي تجبر الطرف الآخر إلى تغليب الحكمة والعقل، والتخلي عن طموحاته التي ستكون سبباً في المزيد من المآسي وضياع الجهود وهدر الطاقة بدلاً من توجيهها إلى ما يخدم قضايا ووحدة الأمة الإسلامية. فالسعودية في حين انها عمقاً استراتيجياً لغيرها، فإنها تفتقد إلى العمق الإستراتيجي إلا من ذاتها المتمثل في شعبها ومقدّراتها ومساحتها الشاسعة. وقد أثبتت أزمات الخليج كلها أن السعودية هي ملاذ للجميع ويتكئ عليها الجميع في وقت لا تستطيع معه إلا أن تقوم بدورها وتتحمل تبعات سياسات غيرها وتهوره، وأن تدفع ضريبة ذلك من مكتسباتها وطاقاتها. وبالنتيجة فكل ما يدور حولنا من أزمات حتى وإن كانت من طرف ضد آخر، فإنها في نظري ذات أثر بالغ على أمننا الوطني، ولها خطورتها علينا لأننا لا نملك أن نقف منها موقف الحياد مطلقاً. وذلك ببساطه يتأتى من حقيقة أن كل من حولنا نحن بمثابة العمق له في الوقت الذي لا يشكل أحد ممن حولنا عمقاً لنا. أن هذا الهاجس وهو يلامس أمننا الوطني له أثره المؤكد على سياساتنا في الداخل، كما وان له أثره العميق على سياساتنا الخارجية وعلاقاتنا بدول المجتمع الدولي ومؤسساته. فعلى صعيد سياساتنا الخارجية سنجد أننا قد نضطر أمام حدث معين أن نتخلى عن التوازن الذي عرفت به سياستنا الخارجية وعلى مدى عقود. فهذا التوازن كان سمة لعلاقاتنا الدولية وسياستنا الخارجية تجاه المجتمع الدولي ككل، باستثناء تلك الامتيازات في علاقتنا ببعض الدول النابعة من مصالح اقتصادية بحتة، وكان من الطبيعي أن تكون العلاقات السياسية مواكبة لها وبنفس العمق وعلى قدر يخدم المصالح المشتركة. وهناك أيضاً بعض الاستثناءات المبررة في نظري كتلك القطيعة السياسية في زمن ما، نتيجة المواقف المبدئية التي كانت تؤمن بها الحكومة السعودية ضد الشيوعية والدول التي تبنّتها.
كذلك فإنّ من سمات السياسة السعودية الخارجية الثبات في مواقفها الداعمة لجهود المصالحة بين الأطراف العربية، والوقوف في موقع وسط بينهم أثناء أي خلاف يطرأ. والثبات على هذه السياسة ليس من المؤكد أن يكون بمقدورنا التمسك به، فيما لو أقدم طرف عربي ما أثناء أزمة ما إلى اللجوء إلى طرف خارجي إقليمي أو حتى دولي لدعم موقفه ضد خصمه. قد رأينا هذا أو قريباً منه أثناء الخلاف بين حماس وفتح مؤخراً. وقد يبدر هذا التصرف أو مشابهاً له من دولة مجاورة ولأي سبب، حتى ولو من قبيل المغامرات الطائشة، بما سيؤدي إلى فرض واقع لا يسعدنا التعامل معه، وخصوصاً عندما يؤدي الى تواجد عسكري أو الدخول في معاهدات مع قوى خارجية. وفي مثل هذا الحال فسيقود هذا، عند حجم معيّن، إلى تهديد أمننا الوطني، وخصوصاً عندما يقود إلى نزاع مع دول كبرى.
فيما يتعلق بإيران كقوة إقليمية في الشرق الأوسط وجارة يجمعنا بها قواسم مشتركة كثيرة، فإنّ الأمر يزداد سوءاً عندما يكون هناك أي خلاف معها أو احتمال لمواجهة من أي نوع. ونحن أمام طموحاتها النووية والتوسعية، وتصريحاتها النارية من وقت لآخر، مطالبون بسياسة تنطلق من ثوابت تأخذ في اعتبارها صون أمننا الوطني في السعودية وفي دول الخليج في المقام الأول. وعلينا أن نعمل على تبني سياسة عربية موحدة في العلاقة مع إيران لكي نصل إلى الحد الذي تقتنع عنده الحكومة الإيرانية من أنّ صداقة العرب ككتلة واحدة، سيكون أكثر جدوى لقضاياها من فقدانهم ككل بسبب موقف مع إحدى دولهم. وكذلك لابد لنا من سياسة تأخذ في الاعتبار طموحاتنا نحن في الاحتفاظ بدورنا الرائد والقيادي في العالم العربي والإسلامي. وفيما يتعلق بإيران فإننا مطالبون بتوثيق العلاقات معها بشكل أعمق وبطريقة ترتكز على المصالح والتعاون المشترك وبالذات في النواحي الاقتصادية التي في حين تعاظمها إلى الحد المقبول، ستكون كفيلة بأن تحسب لها إيران حسابها وتضعها في سلّم أولوياتها بالمكانة التي تستحقها وفوق مطامعها الضيقة التي لا تغني على أرض الواقع ولا تسمن من جوع. هذا كله يجب أن يتواكب مع التطوير النوعي والعددي في قدراتنا العسكرية.
وعلى الصعيد الدولي، فإنّ الأمر يتطلّب بذل المزيد من الجهد لتمتين علاقاتنا الدولية بتلك القوى التي لها أثرها ونفوذها في الحلبة الدولية. إن من بين هذه الدول دولتان قريبتان من الحدود الإيرانية, هما الصين وروسيا, ولهما معها العديد من القضايا التي بإمكاننا أن نستفيد من نقاط القوة والضعف فيها. وهناك كذلك القوى الإقليمية الأخرى غير العربية التي يجب أن لا نغفل دور أثر علاقاتنا بها في خلق التوازن المطلوب في المنطقة بما يخدم قضيانا عموماً. على رأس هذه الدول تركيا وباكستان والهند. كما أن من بين الدول، وهي للأسف تحتل موقعاً متأخراً في سياستنا الخارجية، تلك الدول الإسلامية المنبثقة عن الاتحاد السوفييتي إثر انهياره. هذه الدول لها حدودها المباشرة مع إيران وسيكفل تمتين علاقاتنا بها القدرة على عمل الكثير من خلالها عند الحاجة. هذا بالإضافة إلى أن علاقاتنا بها عند تعميقها ستؤدي إلى ترسيخ موقعنا كدولة محورية في القضايا الإسلامية التي هي قدرنا الذي لا مناص منه.
إنّ من نجاحات السياسة الخارجية السعودية التي لا تنكر، وهي لا شك كثيرة، متانة علاقاتها بالدول الغربية وأمريكا وتجاوزها للكثير من الصعاب والأزمات. غير أن هذا الأمر يجب ان لا يكون على حساب علاقاتنا بدول العالم الأخرى، وبالذات تلك التي لها وزنها الدولي ونفوذها على مجريات أحداث العالم كروسيا والصين واليابان. مع مثل هذه الدول يفترض أن تكون علاقاتنا أعمق بكثير من مجرد علاقات دبلوماسية مستقرة توصف في أحسن حالاتها بالصداقة والود. يجب أن يكون أحد محاور العلاقة مع مثل هذه الدول تبادل المصالح الاقتصادية بحجم أكبر، ورفع معدل التبادل التجاري معها. إننا في حال تحقيق هذا التوازن في هذه المعادلة بين الشرق والغرب ربما سنكون جسراً بينهما يحقق على أرض الواقع ما يتميز به موقعنا الجغرافي المتوسط بينهما، والمدعوم كذلك بموقعنا الريادي في قمة هرمي العالمين العربي والإسلامي. إن تحقيق ذلك هو في نظري دعم حقيقي وتكريس مادي لضمان أمننا الوطني واستقرارنا السياسي في المملكة والخليج داخلياً وخارجياً.
mzmzbraidan@gmail.com