يعد الدكتور محمد عابد الجابري من بين المفكرين العرب ذوي المشاريع النظرية الأكثر إثارة للجدل في اللحظة الراهنة بفعل نقده للعقل العربي وبحث صيرورته التاريخية وتحديد المفاهيم المتحكمة في بنيته متوسلاً المنهج الابستمولوجي ليجلي مدى الحاجة إلى عصر تدوين جديد ينهض على.......
......(استعادة نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون) (بنية العقل ص 552) على نحو يؤسس للعقل نظاماً معرفياً مؤهلاً للتعاطي مع تحديات اللحظة المعاشة. لقد تجلى للجابري أن ثمة وحدة خفية ونسقاً عاماً ينتظم الإنتاج التراثي الشأن الذي أغراه بمقاربة العقل العربي كيف تخلق؟ وما نوعية الشروط المعرفية والتاريخية لبنائه مقرراً أن (نقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة) (تكوين العقل ص5) وقد شهد مشروعه أصداء واسعة وردود أفعال متعارضة فثمة من راق له فاحتفى به وثمة من استهجنه فرفضه كما نرى في (نقد نقد العقل العربي) (جورج طرابيشي) وكلا المشروعين يفيئان بالذاكرة إلى تلك الخصومة الفلسفية في القرن السادس بين الفيلسوف المشرقي (الغزالي) في (تهافت الفلاسفة) والفيلسوف الأندلسي (ابن رشد) في (تهافت التهافت) ذلك العمل للجابري يكشف عن معرفة موسوعية واطلاع عميق على مكونات الثقافة العربية من فلسفة وأصول وكلام وتصوف وعلوم آلة من ناحية وبصيرة شمولية بالمناهج الحديثة في مجال الفلسفة وعلوم الإنسان، فهو حقاً يملك العدة المنهجية والقدرة العالية على ممارسة إستراتيجيته النقدية بصورة متقنة، وإن كنا نخالفه فيما توصل إليه من خلاصات. إن القدرة البحثية والبراعة المنهجية قد توظف في سياقها وقد تستخدم لممارسة التمويه وتزييف الحقائق والدخول في شريحة الذين (أوتوا إذكاء ولم يؤتوا زكاء) كما يعلق (ابن تيمية) رحمه الله. لقد انبعث الجابري في مشروعه من ذلك التمييز الذي أقامه (لالاند) بين العقل المكون أو الفاعل والعقل المكوّن أو السائد والذي هو محل النقد هنا وهو ذلك العقل الذي هو (جملة المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة العربية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة) (تكوين العقل ص15) وقد عمد الجابري في سياقه التنظيري إلى تحديد ثلاثة أنماط من الأنظمة المعرفية التي عرفتها الثقافة العربية وتتمثل في النظام البياني - ويسميه المعقول الديني- نسب إليه التمركز حول البيان واللغة، والنظام العرفاني - ويسميه اللامعقول العقلي أو العقل المستقيل- وقد عزى إليه كل الآفات المعرفية والكوارث الثقافية، والنظام البرهاني- ويسميه المعقول العقلي أو العقل الكوني - وجعله سيد العقول لاستناده إلى المنطق الأرسطي. المنظومة البيانية تشمل علوم اللغة والفقه والكلام، والعرفانية تشمل التصوف والفكر الشيعي والتفسير الباطني للقرآن والفلسفة الاشراقية، والمنظومة البرهانية تشمل الفلسفة والعلوم العقلية من المنطق والرياضيات والطبيعات والإلهيات والميتافيزيقا، وقد أبدى الجابري ولاءً منقطع النظير لهذه الأخيرة والتي يمثلها في نظره ابن رشد فقد انبهر بها الجابري دون أن يبدي أي لون من التحفظ! وبالقدر ذاته كان أكثر قسوة على المنظومة العرفانية. التأمل في هذا الطرح يكشف عن قبليات تمركزية تحكمه، وعن نزعة علمانية يجري التستر عليها وإيثار الإفصاح عن الديمقراطية والعقلانية، وهو يستخدم هذا الالتفاف كما يؤكد (علي حرب) لئلا (يثير حفيظة الإسلاميين وهو لا يريد استعداءهم) (نقد النص ص 126) التقية المعرفية فرضت عليه تحاشي التطرق الصريح للمفردات الدينية وتلافي النقد اللاهوتي لأن (العالم العربي في وضعيته الراهنة لا يتحمل ما يمكن أن نعبر عنه بالنقد اللاهوتي) (التراث والحداثة ص131) الجابري في مشروعه النقدي سار أحياناً على نحو لا ينسجم ومقتضيات الشرط العقدي وفي أحيان كثيرة بدا تناوله حمال أوجه، ولكن رد متشابه طرحه إلى محكمه يجلي حقيقة منحاه الغائي. يتعاطى الجابري مع التراث بآلية لا تميز بين ما هو مقدس ومأساوي ذلك مما هو قابل للتمحيص والانتقاء فيأتي حديثه شمولياً على نحو يقلل من القيمة الموضوعية للجانب المشرق من التراث بل هو يؤكد (أن الموروث الثقافي العربي الإسلامي (لاحظ التعميم هنا!) الذي تناقلته الأجيال منذ عصر التدوين إلى اليوم ليس صحيحاً على وجه القطع بل هو صحيح فقط على شروط أهل العلم الشروط التي وضعها وخضع لها المحدثون والفقهاء والمفسرون) (تكوين العقل ص64) وهذا ولا ريب تشكيك صارخ في هذا التراث العريض. ويصرح في (التراث والحداثة ص 248) بأن (حضور التفكير التراثي الرجعي بشكل قوي) من أكبر بواعث التقهقر الحضاري وأن ضمور العقل العربي عائد إلى أنه (لا يفكر إلا انطلاقاً من أصل أو انتهاء إليه أو بتوجيه منه الأصل الذي يحمل معه سلطة السلف إما في لفظه أو في معناه) (بنية العقل ص 564) الانعتاق من سلطة السلف شرط محوري في التقدم. من هم السلف يا تُرى؟! يجيب عن ذلك في معرض احتفائه بكتاب (الأحكام) ل(ابن حزم) فهو يعزو هذه الإشادة إلى أن ابن حزم (شجب تقليد الأئمة حتى ولو كانوا من الصحابة) (بنية العقل ص569) وفي موضع آخر يشيد بظاهرية ابن حزم لأنها تحرر من سلطة السلف وتتحرر من القياس (بنية العقل ص569) ينحاز إلى النظام البرهاني (الارسطوطاليسي)، ويعلل ذلك بأنه يقدم منهجاً في (التفكير وتصور للعالم يختلفان تماماً عن المنهج والتصوّر الذين تم إرساؤهما في الثقافة العربية الإسلامية بمعطياتها الخاصة (ما هي المعطيات الخاصة؟!) (اللغة والدين) (بنية العقل ص415) ويؤكد أن سر نجاح هذا النظام يكمن في استناده إلى العقل في تمأسسه وأنه (لن يكون من المقبول ولا حتى من الممكن أن يستند أصحابه في تأسيسه داخل الثقافة العربية الإسلامية إلى السلطات المرجعية التي تعتمدها هذه الثقافة: القرآن والحديث وتجربة السلف) (بنية العقل ص 416) الجابري يعتبر هذا النظام الذي يعتمد العقل ويقصي النقل (أقوم منهج بل المنهج الوحيد الموصل إلى العلم، والرؤية التي يقدمها عن العالم أمتن وأكمل من أية رؤية أخرى لأنها العلم ذاته (بنية العقل ص416) النص والإجماع والاجتهاد لا يعول عليها في نظره، يقرر هذا إبان إجرائه للمقارنة بين الأنظمة المعرفية الثلاثة حيث يؤكد أنه (إذا كان البيان يتخذ من النص والإجماع والاجتهاد سلطات مرجعية أساسية ويهدف إلى تشييد تصور للعالم يخدم عقيدة دينية معطاة هي العقيدة الإسلامية أو بالأحرى نوعاً من الفهم لها.. فإن البرهان يعتمد قوى الإنسان المعرفية الطبيعية من حس وتجربة ومحاكمة عقلية وحدها دون غيرها في اكتساب معرفة بالكون ككل وكأجزاء لا بل لتشييد رؤية للعالم يكون فيها من التماسك ما يلبي طموح العقل) (بنية العقل ص 383، 384) أما الحدود فيقرر (ملاءمتها للحالة التاريخية التي نزل فيها النص أما اليوم فلا لتغير الحال) (وجهة نظر ص57) أما تفسير القرآن فيؤكد ضرورة توسل المنهج العقلي واستبعاد التفاسير السابقة، ومعلوم أن هذا المنهج سيصطدم بالأمور العقلية مما يؤول به إما إلى رفضها أو في أحسن الأحوال إلى لي أعناقها لتنسجم والبعد العقلي المادي. أيضاً يقلل من أهل السنة ويعلي من قيمة المعتزلة وذلك لأن أهل السنة يتعاملون مع النصوص على أساس من (مجرد التقليد والاتباع وليس على أساس من التنظيم والتنظير كما فعل المعتزلة) (بنية العقل ص 66) ابن رشد له حضور تبجيلي عند الجابري الذي لا يجلي موقفه من تلك التجديفات الفظيعة للشارح الأكبر لأرسطو كقوله بنظرية عقول الأفلاك والتي حذا فيها حذو أرسطو في الفصل الثامن من مقالة اللام من كتاب (ما بعد الطبيعة) ولا يستثني الجابري تلك المفردات الرشدية التي استفزت المؤسسة الدينية في قرطبة الشأن الذي آل إلى منع تداول كتبه بل وإحراق جزء منها. المنهج ذاته مع أرسطو حيث لا يتحفظ ناقد العقل العربي على المنهج الأرسطي في القول بقدم العالم وإنكاره التام للعناية الإلهية بأي شيء في الوجود خلا ذاته بل إنه ينقل كلام أرسطو عن واجب الوجود ولا يبدي ما يشعر برفضه لذلك حيث يقول: (المحرك الأول الذي هو عقل محض لا يمكن أن يكون موضوع تعقله شيئاً آخر يقع خارجه وبالتالي فموضوع تعقله الوحيد هو ذاته نفسه فذاته وحدها تتصف بالثبات أي بعدم التغير.. وهو عاقل لأنه عقل محض أي محض نشاط عقلي كما قررنا وهو معقول لأن موضوع تعقله هو ذاتها لا غير) (بنية العقل ص412) ويطرح أيضاً نظرية الفيض والصدور للفارابي تلك النظرية التي مبعث القول بها هو حل مشكلة الخلق خلق العالم المتكثر من إله تشكل الوحدة والوحدانية حقيقته الأساسية ثم يعلق عليها (هكذا يقترن وجود الموجودات الحادثة بوجود واجب الوجود اقتران المعلول بعلته) (بنية العقل ص 450) ويطرح نظرية علو مقام الفيلسوف على النبي تحت ذريعة أن الأول يتلقى الحقائق من العقل الفعال بعقله لا بمخيلته كالنبي ويعلق على تلك النظرية على سبيل الانحياز إليها (بنية العقل452) وفي سياق تعليقه على ظاهرية ابن حزم يذكر أن الفلسفة (تهدف إلى نفس ما تهدف إليه الشريعة) هكذا بدون تحفظ (تكوين العقل310) أحياناً يتناقض فمثلاً في (بنية العقل66) يقرر أن المعتزلة كانوا أشد وطأة على الشيعة من أهل السنة ويتجافى عن حقيقة أن الاعتزال نفسه قد ذاب في التشيع بل إنه في (ص177) حين رام تقرير وجهة نظر المعتزلة الأوائل في العقيدة توسل (الرسي) الشيعي لتجلية ذلك الفكر! هذا التناقض أكده (طه عبدالرحمن) حيث أكد أن الجابري (أخذ بالنظرة التجزيئية حيث يدعي أنه سيتخذ النظرة الشمولية وكيف أنه وقف عند حدود النظر في الخطاب التراثي بصدد الآليات حيث يدعي انه سينظر في الآليات نفسها وليس في مضامين هذا الخطاب) (تجديد المنهج ص70). تقليله من قيمة أصول الفقه حدت به إلى محاولة تصفية الشافعي، لماذا؟! لأنه هو الذي جعل (النص هو السلطة المرجعية الأساسية للعقل) (تكوين العقل ص105) ولأنه (المشرع الأكبر) لهذا العقل الذي نتوخى التحرر منه (بنية العقل ص22) ويتحدث عن محدودية آلة القياس ويتجاهل ولا إخاله يجهل أن النظام البياني لم تحصر آلياته بالقياس أو اللغة بل ثمة آليات أخرى يشتغل عليها كالاستصحاب والعرف والاستحسان والاستصلاح وغيرها. الفقهاء في منظوره (همشوا إلى درجة كبيرة مقاصد الشريعة) (بنية العقل105) أما اللغة فهي (عاجزة عن مواكبة التطور وقبول ما لابد منه من التغير والتجديد) (تكوين العقل82) ومن جهة أخرى وبطابع هجائي يرى بدوية العقل العربي وذلك لأن الأعرابي هو (صانع العالم العربي) (تكوين العقل75) أحيانا لا يلتزم بالعقلانية التي يدعو إليها ويتعاطى كما يؤكد (علي حرب) (بدافع قومي عصبوي غير عقلاني) كما في وقوفه مع ابن رشد ضد ابن سينا (نقد النص122) المتمعن في هذا الطرح يقف على جملة من القضايا التي لا يجلي موقفه منها بشكل صريح كقضية الجوهر الفرد (بنية العقل ص179) وان الأعراض لا تبقى زمانين (ص186) وشيئية المعدوم (ص224) ومسألة الأحوال في (ص229) هذا وقد لاقى هذا المشروع جملة واسعة من الانتقادات كما في (تجديد المنهج) ل(طه عبدالرحمن) حيث تناول- على حد تعبيره -أوجه القصور في فقه الآليات والبناء المتهافت لنموذج الجابري انظر مثلا (ص41، 42) أيضا (طيب تيزيني) يذهب إلى أن الجابري يريد الإطاحة بتاريخية العقل العربي (من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب الشرقي ص150) وفي (السجال الفكري) ينعته بالضحالة وعدم القدرة على تملك النص وقراءته. وكذلك الدكتور (محمد جابر الأنصاري) يعبر عن موقف نقدي مضاد في (مساءلة الهزيمة) ومثله (أدونيس) هذا فضلا عن (جورج طرابيشي) في (نقد نقد العقل) وغيرهم، بل إن طرابيشي دفع باتجاه القول بأن الجابري نموذج معاصر للسرقات الفكرية وأنه يتكتم على مصادره وأحيانا يزيفها! وهكذا نكتفي بهذه الإشارات العابرة لأن السياق لا يتيح التفصيل.