زاوية تهتم بكل ما يتعلق بالطب النفسي والتنمية البشرية وتطوير الذات ... نستقبل كل أسئلتكم واقتراحاتكم..
* السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. أما بعد:
أرسل لك يا دكتور مشكلتي وأتمنى أن أجد منك النصح والتوجيه لأنني يعلم الله واقع في مشكلة كبيرة.
أنا أعمل معقباً في الدوائر الحكومية وعندي كذلك نشاطات أخرى تجارية. كنت في البداية حريصاً جداً وسريعاً في إنجاز كل المعاملات وبسرعة قياسية، ولكن مع الوقت أصابني التعب والملل وأصبحت أواجه مشاكل وضغوطاً من أصحاب المعاملات. وفي أحد الأيام شكوت حالتي إلى أحد أصدقاء السوء فعرض عليّ حبوباً منشطة، وقال لي إنها تجعلني أنجز كل الأعمال بسرعة وبدون أن أحس بالتعب.
أخذتها واستمررت عليها للأسف لسنوات، وأصبحت أشعر كلما توفرت عندي هذه الحبوب بنشاط ورغبة في إتمام كل أعمالي حتى لو جاء هذا على حساب صحتي لأنني أصبحت أسهر كثيراً، وعندما لا تتوفر هذه الحبوب اللعينة أشعر بأنني كسول ولا أستطيع إنجاز أي أعمال حتى البسيطة جداً، مما يوقعني في مشاكل كبيرة حتى مع أهلي بسبب اتصالات أصحاب المعاملات المتأخرة وإحراجهم لي ولأهلي.
إنني أعلم والله بالضرر الكبير الذي تحدثه هذه الحبوب المنشطة، وأسأل الله العلي العظيم أن يرفع عني هذا البلاء ويجنب جميع المسلمين الوقوع فيه.
سؤالي جزاك الله خيراً .. هل لهذه الحبوب من تأثير نفسي؟ وهل أنا الآن واقع تحت التأثير النفسي للفائدة التي تحدثها هذه الحبوب؟ وما هو العلاج؟
* أخي الكريم أولاً أسأل الله تعالى أن يوفقك لاتخاذ القرار اللازم للتخلص من هذه السموم، بعد أن وفقك والحمد لله لاستشعار وإدراك خطورتها على صحتك.
رغم أن هذه الحبوب المنشطة تعطي في البداية تأثيراً حقيقياً من ناحية زيادة النشاط البدني والقدرة على السهر وتقليل الحاجة للنوم، إلا أنها - وكما لمست ذلك بنفسك - تؤدي على المدى الطويل إلى الاعتمادية الكاملة، والحاجة إلى زيادة الجرعات بشكل تدريجي للوصول إلى نفس التأثير المطلوب. يتبع هذا أيضاً ظهور الأعراض الانسحابية، وهي الأعراض الناتجة عن انخفاض نسبة هذه المواد في الدم عند التوقف عن استخدامها. وهذا ما يفسر عجزك عن إنجاز مهامك الوظيفية إلا باستخدامها، بمعنى أنك أصبحت تعتمد على مفعولها للقيام بنفس الأداء الذي يقوم به كثيرون غيرك دون الحاجة إلى استخدام هذه المواد بل - وهو الأرجح - أنهم قادرون على الأداء بمستوى يفوقك ويتميّز بالاستمرارية.
أمر آخر هام أريد أن ألفت انتباهك وانتباه - القارىء الكريم - إليه، وهو ضغوط العمل التي لم تستطع التكيف معها. بمعنى أنك بدأت بأداء عالٍ ثم مع الوقت تراجعت ولم تستطع المواصلة بنفس المستوى، وبدلاً من اللجوء إلى استشارة أشخاص لهم خبرة ودراية بهذا الأمر، لجأت للأسف الشديد إلى العمل بنصيحة إنسان غير جدير بالثقة وبطلب النصيحة. أذكر هذا لا لأعزز شعورك بالخطأ وإن كان هذا مطلوباً أحياناً للتعلم من الأخطاء والاستفادة منها، ولكن أيضاً ليستفيد الإخوة والأخوات من هذه التجارب مستقبلاً لتجنب الوقوع في مثل هذه الأخطاء، وأحسب أنّ هذا أحد أهم أهداف هذه الزاوية.
أعود وأقول إن انخفاض الأداء في العمل - أياً كانت طبيعة ذلك العمل - يعود إلى عدة عوامل، منها أن لكل فرد منا إمكانيات محددة وهبه الله إياها، عليه أن يستوعبها جيداً ويوظفها بالطريقة المناسبة ثم يحاول تطويرها شيئاً فشيئاً دون أن يرهق نفسه بأداء مهام قد تفوق مستوى قدرته كما هو الحاصل معك. فمع الوقت وهذا طبيعي - في ظل الأعباء الزائدة التي حملتها لنفسك - لم يعد باستطاعتك المواصلة بنفس الأداء، وهذا شكّل بالنسبة لك ضغطاً وإجهاداً نفسياً وبدنياً أثّر حتى على قدرتك على النوم بارتياح، وبدلاً من أخذ قسط من الراحة المطلوبة أو تخفيف الأعباء الوظيفية ولو حتى بالتخلي عن بعضها لأنّ صحتك هي الأولوية الأولى، أقول بدلاً من ذلك اخترت أن تزيد قدرتك الأدائية بشكل غير طبيعي، وذلك باستخدام المنشطات، والذي يحدث في مثل هذه الحالة أن الأداء يرتفع فعلاً، ولكن بشكل مؤقت، حيث لا يلبث أن يعود إلى الانخفاض من جديد بل وبشكل أشد من السابق حيث تبدأ آثار تعاطي هذه المواد بالظهور كالشعور بالإرهاق الدائم والانخفاض الحاد في المزاج والانطوائية، والاكتفاء فقط بالتعاطي للمحافظة على قدرتك على الوقوف على قدميك في ساعات النهار، ثم الانهيار البدني للحصول على عدد قليل من ساعات النوم غير المريحة وغير الصحية، نتيجة تأثير هذه المواد أيضاً على نوعية دورات النوم الطبيعية والفائدة الصحية منها في إعادة التوازن العقلي والجسدي.
هذه هي النتيجة النهائية للتعاطي المستمر، وهي بالتأكيد ليست النتيجة التي ترغب الوصول اليها. لذلك أخي لا يكفي فقط أن تراجع موقفك الآن، بل لا بدّ من أخذ إجراء سريع وجريء بلا تأخير بالتوجه إلى أحد مراكز التأهيل النفسي وعلاج الإدمان، حيث يتم وضع برنامج علاجي متكامل يتناسب مع حالتك بعد القيام بالفحص النفسي الدقيق، ومعرفة أي مرحلة إدمانية وصلت اليها، بحيث يتم وضع البرنامج العلاجي بناءً على هذا التقييم، علماً بأنه في الكثير من الحالات التي لم تصل إلى مرحلة الإصابة بأعراض ذهانية شديدة (كالشكوك والهلاوس) نتيجة التعاطي، كما هو الحال في حالتك - ولله الحمد -، يتم الاكتفاء بمراجعة العيادات الخارجية ودعمك ببرنامج لتخفيض الجرعات التي تستخدمها بشكل تدريجي حتى الوصول إلى التخلص من هذا الداء تماماً - بإذن الله - وفي حال كنت تعاني من بعض الأعراض الانسحابية المعتادة بعد إيقاف المواد المنشطة كالخمول الشديد والنعاس والاكتئاب فسيتم مساعدتك من خلال أدوية طبية مساندة آمنة بشكل عام، ولا تسبب أي نوع من أنواع الإدمان، ويتم بعد ذلك إيقافها بواسطة الطبيب المختص بعد أن تتجاوز المرحلة الانسحابية.
يأتي بعد ذلك دور برامج الدعم النفسي والتأهيل لتقديم الاستشارة المتخصصة، فيما يتعلق برفع مستوى أدائك الوظيفي إلى أعلى مستوى متناسب مع قدراتك الطبيعية، دون الاخلال بهذا التوازن، للمحافظة على صحتك العقلية والبدنية.
أحب أن أختم هنا بقصة معبّرة عن رجلين يعملان في قطع الأشجار بواسطة المنشار في إحدى الغابات الضخمة. كان أحدهما يتوقف بين الحين والآخر لشحذ منشاره ثم يعود لقطع الأشجار من جديد، أما الآخر فكان يصر على الاستمرار بقطع الأشجار دون توقف، ظناً منه أنه بذلك سيتمكن من جمع عدد أكبر من الأخشاب لبيعها مقارنة بزميله. غني عن الذكر أنّ الرجل الذي اختار التوقف وأخذ راحة لشحذ منشاره استطاع أن يجمع أكثر بكثير من زميله بل واستمر بنفس معدل أدائه لسنوات، أما الآخر فتناقصت قدرته على القيام بالوظيفة ومنشاره أصبح معطوباً مع الوقت وغير قادر على قطع أي شجرة (عن كتاب: العادات السبع للناس الأكثر فاعلية - لستيفين كوفي).
إضاءة
القدرة على الاسترخاء تؤدي إلى كفاءة أكبر في الأداء وإنتاجية أعلى.
* دكتوراه في الطب النفسي
كلية الطب ومستشفى الملك خالد الجامعي - الرياض
e-mail: mohd829@yahoo.com