وقف أمامي، طفلٌ لم يتجاوز عمره السابعة، نحيل الجسم، رث الهيئة، مكسور الخاطر حدَّ التحطم!!
التقت نظراتنا للحظة، ثم قَبِلتُ وجوده في منزلي، فهو أخٌ لزوجي، توفي والده وهجرته أمه، فتنازعته أيدي الشقاء وهو بين زوجات أبيه وإخوانه، فالتقطته يد زوجي بعد أن وجده جائعاً، منطوياً أمام إحدى الحدائق العامة!
لم يكن عمري يتجاوز الخمسة عشر عاماً حين أدخلته الحمام وغيّرتُ ملابسه بعد أن أخذ مني جهداً في التنظيف من وعثاء التشرد!
ولم أستطع قط نسيان ابتسامته حين رأى نفسه نظيفاً لأول مرة.. قدمت له الطعام فالتهمه وهو يرمقني بنظرة الامتنان!
دخل المدرسة وتابعتُ دراسته حتى بعد أن أنجبتُ أبنائي، وحين وصل لنهاية المرحلة المتوسطة توفي زوجي ليتركني مع أبنائي الثلاثة وأخيه (ابني الأكبر طارق).. فوجدت نفسي لأول مرة بمواجهة الترمل والفقر والحيرة، وأنا لم أبلغ الثالثة والعشرين من عمري.. ولإجادتي الحياكة أصبحت هي مورد الرزق الوحيد لإعالة أبنائي الأربعة.
كان (طارق) يذهب برفقتي للسوق لشراء الأقمشة، كما كان يقوم بإيصال الملابس بعد حياكتها للزبائن والمحلات التي تبيعها، وتأخذ نصيبها وتسلمه نصيبي.. وكان يشاركنا المنزل برغم حجابي المحكم، حيث يتخذ من ملحق المنزل مسكناً.. ويقاسمني المسؤولية ويساعدني في تحمُّل رعاية الأبناء ويقوم بتدريسهم ومتابعتهم.. ولم يتبرم قط من طعامٍ أو لباسٍ أو معيشة.
ولم تكن الإجازة راحةً واستجماماً، بل كان يستثمر وقتها بعملٍ شاق عدا عمله المسائي أثناء الدراسة، فهو يحلم بشراء سيارة للتنقل ولتوصيل أبنائي لمدارسهم، فهو عمهم الذي ما فتئ يشعر بالمسؤولية والأمانة تجاههم، والإحساس بالجميل لم يبرح مخيلته قط.
وها هو يتخرج في الجامعة مهندساً ويُحضِرُ لي شهادته مؤطرة بكرم أخلاقه وشهامته التي لم تنفد، ولم تتبدد وسط أمواج عاتية من مآسي الحياة وإغراءاتها.
وحين بلغ طارق من العمر ثلاثاً وعشرين سنة، فارع الطول، وسيماً شهماً كريماً بسيطاً، كانت كل فتاة تتمنى الاقتران به.. وكنت أتساءل حينها كلما رأيتُ فتاة: ترى هل ستملأ عين طارق؟ وهل ستستطيع تحقيق آماله وطموحاته؟ أخشى أن تجرحه بكلمة أو تخدش مشاعره بتصرفٍ أحمق!
في ليلة عجيبة كأني سمعتُ دوي انفجارٍ عنيف، وأنا أستمع لأخي يطلق تساؤلاً أعجب: (طارق تقدم خاطباً لك، فهل توافقين يا نوال)؟!
يا إلهي.. هل أتزوج ابني؟! إن طارقاً بالفعل ابني! كيف لامرأة أن تتزوج ابنها؟! وكان عمري إحدى وثلاثين سنة وولدي الأكبر على مشارف الثانوية!
رفضتُ وبكيت، ولكنه لم يملْ ولم ييأسْ! حيث وسَّط كل معارفه وأقاربه واستنجد بأبنائي.. بل إنه خاطَب حتى الجمادات، فلا تعجب حين تراه يُكلِّم جداراً أو حجراً ليقول له: أرجوك أن تقنع نوال بالزواج مني، وأعدها أن أسعدها كما أسعدتني!
تقول نوال: وتزوجته وأنا في كامل خجلي، ولم أستطع أن أنظر إلى وجهه، وأنا أتذكر تلك النظرة الوحيدة حين استقبلته وهو صغير وكان في حالة بؤس وشقاء! وهو اليوم أمامي بكامل هيئته وهندامه، وهيبته! ولأول مرة أنظر له ملياً لألمح في عينيه نظرة الحب والامتنان!!
فأي مكافأة يا ربِ تمنحني إياها بعد رحلة الفقر والترمل والشقاء! وأي عملٍ جميل فعلته لتجزيني - ربي - بهذا الجزاء؟! فإن كنتُ قد عشتُ ثلاثين سنة شقاء، فإنني وأنا الآن في الخمسين قد نسيتها تماماً، وأتذكر أنني عشتُ مع طارق ثمانية عشر عاماً ثرية بالعطاء والسعادة.. وها هو فهد ابننا الأكبر يستعدُ لاجتياز امتحان القدرات.. وأنا وأبوه نعيش لحظات ترقُّب ووجل!
حين التفت أبوه نحوي والتقت نظراتنا تذكرنا لحظات الترقب والهلع خوفاً من أن ترد بضاعتنا من الخياطة التي كنا نقتات منها وتحفظ كرامتنا عن سؤال الآخرين.
ولا أحسبك متعجباً من رحمة ربي وزوجي يحتضنني ويربتُ على كتفي ويداعب شعري ويمسح دمعتي ويعدني بأن فهداً سيجتاز امتحان القدرات بامتياز ويدخل الجامعة، ويصبح مهندساً كوالده!
حينها غرقتُ بالبكاء لأتنهد بتفاؤلٍ وأقول: أيها الأمل... ما أوسعك!!
* ص.ب 260564 الرياض 11342
rogaia143@hotmail.Com