Al Jazirah NewsPaper Sunday  29/03/2009 G Issue 13331
الأحد 02 ربيع الثاني 1430   العدد  13331
اللاءَات (الفيصَليَّة)..؟
حمَّاد بن حامد السالمي

 

* يتسم الأمير (خالد الفيصل) - أمير منطقة مكة المكرمة - بالبراعة واللباقة والإتقان. هذا ليس في الإدارة فحسب، ولكن في سياسة الإدارة ذاتها، وفي الثقافة والاقتصاد والتنمية، وفي المواجهة التي تتطلّب دحض الحجة بالحجة، وكشف المستور الذي لا يرضى عنه الخصوم في كل الأوقات.

* خالد الفيصل .. يكشف ولأول مرة في محاضرة فكرية علمية، أسس وقواعد (نهج الاعتدال السعودي)، منذ تأسيس المملكة حتى اليوم، بل وينشئ كرسياً علمياً في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، لترسيخ مبادئ وفكر وسمات هذا النهج الذي اختطته الدولة السعودية منذ بداياتها الأولى، فكان سلاحها الأمضى، في وأد الفتن، وكبح الأطماع، وتجنيب المملكة وشعبها، ويلات الدخول في صراعات ونزاعات إقليمية وعربية طاحنة، ففي الوقت الذي ظلّت فيه دول وشعوب في المنطقة، تتأرجح بين قوى يسارية ويمينية، كانت المملكة وسطاً بين ذلك، فتحققت لها بفضل هذا النهج المعتدل؛ كما يقول الأمير خالد الفيصل: (مرحلة فكرية ثقافية اقتصادية جديدة، فنحن اليوم نبني مدناً اقتصادية وجامعات بالعشرات .. نحن اليوم لنا قيمة في العالم .. قيمة فكرية، وقيمة إسلامية، وقيمة عربية، وقيمة عالمية).

* سعدت حقيقة، بقراءة نص محاضرة الأمير الرائد في إدارته وثقافته وفكره وشعره، واكتشفت أنّ تاريخ مئة وعشر من السنين، من حياة البلاد العزيزة، يكمن في الرؤية الفكرية التي طرحها الأمير المحاضر حول: (نهج الاعتدال السعودي)، فلولا هذا النهج المعتدل، لما حافظنا على وحدتنا الجغرافية والسكانية والثقافية، ولولا هذا النهج المعتدل، لما أخذنا طريقنا بعزم وحزم نحو سدّة العالم الأول، ولولا هذا النهج المعتدل، لما صار لنا قيمة إسلامية وعربية ودولية، ولما صار لنا قيمة عند أنفسنا ابتداءً.

* الأمير خالد الفيصل، يرفع من جديد، لاءات جديدة في وجه (التطرف والتكفير والتغريب). لا (للتطرف). لا (للتكفير). لا (للتغريب)، ونعم (للاعتدال في الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة)، واللاءات (الفيصلية الحاسمة) هذه، هي امتداد لتاريخ طويل من (اللاءات الصارمة)، في الصراع الذي خاضه (منهج الاعتدال السعودي) على الصعيدين الداخلي والخارجي، فعلى الصعيد الداخلي، انتصر نهج الاعتدال في كسر حاجز العزلة عن العالم، ليفرض التحديث والتطوير، وعلى المستوى الخارجي، أوقف المد الشيوعي، وتجنّب السطوة البعثية، وحيّد الأفكار التغريبية، وظلّ محافظاً على هوية المملكة في محيطيها العربي والإسلامي، فالمملكة ظلّت وفيّة لإسلامها، ومحافظة على عروبتها، ورائدة في عالميتها.

* بعد عقود من النجاحات والانتصارات في سعي المملكة نحو العالمية، واللحاق بالصف الأول - وهذا ما يدعو إليه أمير منطقة مكة، في خطته التنموية العشرية - فإنّ البعض منا - على ما يبدو - ما زال في حاجة إلى تذكيره بين وقت وآخر، بمضاء سلاح الاعتدال. ما زال البعض يعتقد أنه بإمكانه غلق الأبواب، وتكميم الأفواه، ووضع السعوديين داخل زنزانة من التخلف والماضوية والرجعية. ما زال البعض يحمل في دمائه جينات التخلف والتطرف والوصاية، ويستغل مراكزه الوظيفية، ومنابره الخطابية، لعرقلة المسيرة النهضوية على طريق الاعتدال. إنّ وجود فئات قليلة غير قادرة على استيعاب مستجدات العصر، وعاجزة عن فهم توجهات الدولة نحو انتهاج سياسة الانفتاح والتحديث، وتوفير مستويات معيشية وحضارية أفضل لمواطنيها، إنما تمثل حالة قاعية مزرية في عصر النور، حالة العته هذه، لا تشفع لأصحابها، استخدام أسلوب المخاشنة والمناكفة مع كل حدث ومناسبة، لمجرّد أنها فئة عاجزة عن الفهم، وغير قادرة على الاستيعاب، ولكي تصمت وتكف عن الإيذاء، وجب تذكيرها أنه في أجواء الاعتدال دائماً، لا ينتصر إلاّ العقل، ولا تنتصر إلاّ الذهنية المتحضرة.

* منذ البدايات الأولى لتكوين وتوحيد المملكة العربية السعودية، فإنّ مؤسس وموحد هذا الكيان الكبير، الملك عبد العزيز - رحمه الله -، قد حسم الموقف، واختطّ النهج .. فقال: لا (للغزو)، ولا: (للتخلف) ولا: (للتوحش)، ولا: (للجهل)، ولا (للظلامية) .. ثم قال وفعل: نعم (للسلام)، ونعم (للتقدم والنهضة)، ونعم (للتحضر والتمدن)، ونعم (للنور والعلم والنهل من منجزات العالم الحضارية).

* إنّ معركتنا كدولة وشعب، مع ثقافة التوحش والتخلف والجهل، طيلة أكثر من عشرة عقود، لم تتوقف، ولم تكن سهلة أبداً، وقدم الوطن تضحيات كبيرة في المواجهة بين الحق والباطل، فانتصر الحق القائم دائماً على نهج الاعتدال، فقد اتجه الملك عبد العزيز - رحمه الله -، إلى بناء أكثر من مئة هجرة، بهدف إغراء وتوطين بدو الصحراء، ومن ثم تعليمهم وتحضيرهم، لينخرطوا في وظائف وأعمال تصرفهم عن الجفاف وحياة التوحش، وتغنيهم عن التكسب من الغزو والقتل والتشريد، ومناصرة من يدفع لهم أكثر، وعندما أطلّ بعض رءوس الفتنة من داخل بعض الهجر، يدفعه حنينه إلى ماضيه المتوحش، جرّد الملك النهضوي له سيفه المسلول، فاستلّه وأخمد فِتَنَه، فسارت القافلة في أمان واطمئنان، كما أراد لها قائدها المحنك.

* جاءت حركة جهيمان الظلامية في مستهل السنوات العشرين الأخيرة من القرن الميلادي الفارط، لتشكل منعطفاً خطراً في مسيرة التحديث والتطوير، بعد أن قطعت المملكة فيها شوطاً كبيراً، فمهدت هذه الحركة الظلامية التوحشية، لحركة أكثر توحشية وظلامية منها، تزعمها ابن لادن ومن لادنه وهادنه ممن يحنون لعهود الغزو والتوحش، لكن نصالها تكسرت على صخرة العزيمة السعودية دولة وشعباً، التي تصر على المضي نحو بوابة الدخول في التاريخ الإنساني، وهي البوابة التي وقف الظلاميون بيننا وبينها عدة عقود مضت، باسم الدين البريء منهم ومما يدعون إلى يوم الدين.

* ومن أشهر مواجهاتنا الحاسمة مع الجحافل الظلامية من جهة، وجحافل البديل القومي والبعثي من جهة أخرى، تلك المواجهة التي قادها الملك فيصل بن عبد العزيز - رحمه الله -، فقد رفع شعار الإسلام الوسطي الذي ينبع من ذاته ويتبع ذاته، من أجل أمة إسلامية لا شرقية ولا غربية. قال - رحمه الله -: لا (للجهل والتخلف)، ولا (للتبعية الغربية والشرقية)، ونعم (للعلم والتقدم والتطوير)، ونعم (للوسطية والاعتدال). كان الخطاب الفيصلي في تلك الفترة قوياً وفاعلاً، وكان الفعل المصاحب له أقوى وأفعل، وقد مهد لهذه القفزة الحضارية منذ رئاسته لحكومة الملك سعود - رحمه الله -، في برنامجه الإصلاحي الشهير، الذي حمل عشر نقاط إصلاحية شهيرة، منها تعليم البنات، وإلغاء الرق، وتطوير المناهج العلمية.

* ومع توالي الانتصارات التي يحققها الاعتدال السعودي في مواجهاته مع قوى التخلف والتكفير والتغريب أيضاً، تأتي المواجهة الأكبر - وليست الأصعب على كل حال - في عهديْ الملكين فهد - رحمه الله -، ثم الملك عبد الله رعاه الله، الذي رفع لاءاته الشهيرة فقال: لا (غلو في الدين)، لا (مساس بالدين)، لا (مساس بالوطن)، وبرز مشروع الحوار الوطني الذي أرساه الملك عبد الله قبل عدة سنوات، أهم مشروع إصلاحي لتأصيل منهج الاعتدال في الدولة السعودية، انطلاقاً من ترسيخ مبدأ الحوار في الداخل، والانتقال به إلى حوار الديانات والحضارات. وهكذا يثبت منهج الاعتدال من جديد، أنه السلاح الأمضى والأكفأ في المواجهة، لأنه حقق أكثر من انتصار على أكثر من صعيد، ومنها انتصاره في مواجهة التيارات التكفيرية والتفجيرية، التي استهانت بوحدة التراب الوطني، واسترخصت استقرار البلاد، واستحلت سفك ولعق دماء أبنائها.



assahm@maktoob.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد